لم يكن قرار رئيس جامعة القاهرة بمنع المنتقبات من التدريس فى الجامعة بالقرار غير المثير للجدل المجتمعى الحاد والذى تراوح بمباركة القرار اعتقادا بأنه قرار يتفق ومعايير الجودة الجامعية والتى تحرص على التواصل بين الطالب والأستاذ (رغم تحفظى أن النقاب يمنع التواصل) وانتهاء بوصف سيادته بالعلمانية (رغم تحفظى أيضا على تصنيفات العلمانية والانحراف عن سياق ظهورها) . وبين المؤيد والمعارض ضاعت معالم القضية الأصلية والتى تتعلق ببعدين اثنين لهذه القضية: الأول: الإطار القيمى الذى يحكم دور الجامعة فى العملية التعليمية فى مصر،وفى تشكيل المنظومة المجتمعية، والثانى : مدى لزومية إرساء قواعد مؤسسية فى إدارة الجامعة والتى من المفترض أن تكون بوتقة لصهر الاستقطاب الحاد فى المجتمعات، لا لتأجيجها وصب الزيت على النار . ويحضرنى وأنا أستقرئ كثيرا من القرارات المتعلقة بالجامعة وأساتذتها أخيرا أن هناك حلقة مفقودة فى هذه القرارات وأن المسكوت عنه فى القرار أقوى من المعلن. ومع ولعى بالتفسير العلمى الموضوعى البعيد عن الأهواء والغوص فى النيات أرى كثيرا من هذه القرارات مثيرة للفتن أكثر من كونها هادفة للمصلحة. ويعتبر قرار منع المنتقبات من التدريس قرارا صادما زمنيا إذ لم يمهد له فى الجامعة ولم يطرح للمناقشة داخل كلياتها وداخل مجالس أقسامها شأنه شأن كثير من القرارات التى تدار بها الأمور فى مصر حاليا دون سؤال المنتفعين أو المضارين بالقرار ماذا يريدون وماذا يفضلون وماهى تداعيات هذا القرار وكان من المفترض أن تضرب الجامعة مثلا مختلفا يحتذى به فى «الإدارة بالمشاركة» وإلا ما جدوى القيم التى نبثها فى نفوس طلابنا عن معانى المشاركة والمبادرة و التغيير وحرية الرأى وحقوق الاعتراض والنقاش إذا لم يشارك الاساتذة أنفسهم فى مناقشة القرارات التى تمس جماعتهم العلمية؟ ويحضرنى عن استحضار قرار منع النقاب، قرار منع الحجاب فى المدارس الفرنسية فى أوخر ثمانينيات القرن المنصرم.. ورغم وجاهة الحجة التى طرحت فى المحافل الثقافية الفرنسية وتحفظى عما أفضت اليه القضية وقتها فإن السياق المجتمعى الفرنسى بتفاعلاته وثقافته ارتضى هذا القرار وتوافق عليه.. فهل ناقشت الجماعة العلمية فى الجامعة المصرية هذا القرار ورضيت عنه؟ وهل نصنف فى مجتمعنا العلمى وفقا (لنوعية) الزى كأحد متطلبات التدريس والتعليم بالجامعة ؟ اذا كانت الإجابة بنعم.. أدعى أن يكون القرار جامعا مانعا وهو منع الاساتذة والطلاب الذين لا يرتدون زيا يحول بينهم وبين الاتصال الفعال من التدريس والتعليم وأن يتحدد هذا الزى وتتحدد مواصفاته واذا كانت الجملة الشهيرة أن يكون زيا لائقا فما هى مواصفات هذا الزى علميا؟ ومن يحدده؟.. وهل الملبس الرياضى - مثلا- زى لائق، وهل الجلباب أو العباءة زى لائق، وهل الجينز زى لائق والأوقع هل النقاب زى غير لائق؟ واذا كانت الحجة أن النقاب زى لائق ولكنه يمنع التواصل، تجىء الاجابة هل الدراسات العلمية أثبتت أن هناك علاقة بين درجة استيعاب الطالب ونوعية الزى؟ وهل لابسو الجينز أقدر على توصيل المعلومة والتواصل مع الطلاب من لابسى العبايات والنقاب ؟ أتخيل أنه من السذاجة أن تناقش الامور بهذا المنطق وأن الجامعة التى تخرج فيها طه حسين وأحمد لطفى السيد وغيرهما من قمم العلوم والآداب أولى بها أن تشغل جماعتها العلمية بأمور أكثر عمقا من مسالة النقاب والحجاب. فتصنيف الجامعة فى الإحصائيات الدولية يحتاج إلى وقفة منا جميعا لمناقشة كيفية تحسينه، ونوعية التعليم بداخل الجامعات المصرية يستلزم صهر قدراتنا العلمية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من طالب لا يتعلم إلا ثقافة كره الكتاب وأساليب الخداع والمواربة فى الإجابة لثقته بأن أستاذه - الممزق بين ضآلة الدخل المادى والتهديد بالاستبعاد - لن يقرا إجابته ولا سيجازى على حضوره ومشاركته فى الأنشظة التعليمية لأن هذا الأستاذ نفسه غير راض عن موقف الدولة منه ماديا ومعنويا وبين مقولة أستاذ مهمش وطالب محبط تسير العملية التعليمية فى جامعتنا المصرية من نقاب مجتمعى إلى اغتراب نفسى. إن مجتمعنا العلمى أحوج إلى تضافرنا بغض النظر عن ملبسنا لبنائه وتنميته ومعالجة آفاته بدلا من تصدير آفة أخرى للمجتمع المكتفى تصنيفا وتقطيعا وتفسخا..وكفى الجامعة ما مرت به عبر خمس سنوات لم يتحصل فيها الطالب فكريا إلا على المتناقضات والهراءات التى جلبتها عليه تسييس العملية التعليمية والانحراف بها عن مسارها. ومثلما نادينا جميعا كأساتذة نبغى احترام الجامعة وصون خصوصية دورها المجتمعى، ليتنا لانصنف اساتذة الجامعة وفقا لأهوائهم الايديوجية من فلول، وإخوانى، وسلفى وعلمانى وليبرالى وماركسى ومؤمن وكافر وملحد..إلخ، دعونا نرفض جميعا أيضا خلط الخاص بالعام ونرفض علميا منع الاستاذات الفضليات المنتقبات من التدريس واحترام فضيلة مجتمعية تعمل الجامعة على إرسائها فى المجتمع وهى أن الزى مسألة شخصية لا علاقة بينه وبين توصيل المعلومة والتواصل مع الطلاب والطالبات. فالجامعة جامعة الفروق الفردية والعقلية والنوعية والاجتماعية والاقتصادية ومثال التعددية ولذا فهى جامعة وإلا علينا طرح اسم آخر لها إذا أردنا أن نوحد فيها القرار والزى والرأى. وعلينا أن نتوقف قليلا وتندبر كل من دفعنا للاغتراب عن الجامعة، نتوقف أمام غياب تهيئة السياق الصديق لمشروع أستاذ جامعة واع يعرف مفردات راتبه، ولا يتوقف كثيرا أمام ماكينة الصرف جاهلا ماله وما عليه، دعونا ندعو الى جامعة لا تشارك فى النيل من أبنائها بل تخصص لهم ما يساعدهم على أداء أبحاثهم والتفكير والتدبر فى حل مشكلات مجتمعهم لا أن تقحمهم فى مشكلات أفرزها سياق مترنح وعقول مفلسة. دعونا نأمل فى جامعة لا يقف أساتذتها بداخل حرمها ينتظرون مرور المواكب والضيوف، جامعة تعيد للحرم الجامعى حرمته وللأستاذ مكانته. وعلى من ينأى بنا عن طريق الصواب ويعطل دورنا المعرفى والتنموى أن يعى جيدا أن قطار الاغتراب لن يفوته أو ينساه وعليه أن يتحمل وزرنا جميعا ووزر هذا الوطن السقيم المجهد من ترنح نخبته فى الجامعة المصرية. لمزيد من مقالات د. أمانى مسعود الحدينى