بسرعة خاطفة، نصبت محكمة عاجلة للمذيعة ريهام سعيد، وتطوع الكثيرون من أرباب مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلاميين، والناس العاديين لتقديم أدلة الادانة الدامغة، وفى لمح البصر صدر الحكم بإعدامها مهنيًا وانسانيًا، وشعرت جماهيرنا العريضة الغاضبة بالغبطة والسعادة الغامرة، واقيمت الأفراح والليالى الملاح ابتهاجا باختفائها من الشاشة الفضية حتى حين . هكذا أعلن المجتمع خروجه منتصرًا مظفرًا من موقعة ريهام سعيد التى شغلتنا وتفرغنا لها تفرغا كاملا، وتعاملنا معها بصفتها قضية مصيرية لا يجوز التنازل فيها ابدا عن القصاص والانتقام المستحق، فلا مكان لتحكيم العقل والمنطق، ولا للشفقة والرحمة، وكان الشق الانفعالى هو الغالب والمسيطر على الجميع الذين اندفعوا يرددون الاتهام نفسه، وهو أن المذيعة داست بقدميها الغليظتين على قواعد احترام ومراعاة الخصوصية بفضحها فتاة فى مقتبل عمرها، ونشر صور غير لائقة لها وبقية القصة معروفة ولا نحتاج لإعادتها وتفصيلها. إن ما جرى مع ريهام سعيد انعكاس مخل ومعيب لأزمة حقيقية يكابدها المجتمع المصرى منذ زمن ولا يريد التوقف عندها لدراستها ومعالجتها دون تشنج وتسرع، وهى ادمانه نظرية «كبش الفداء»، فما اسهل التخلص من المشكلات والأزمات أو بالأحرى القفز فوقها بتقديم كبش فداء، مثلما حدث مع المسيرى محافظ الإسكندرية السابق الذى تم تحميله مسئولية غرق الثغر بمياه المطر، وكأن تلك المرة هى الأولى التى تغرق فيها عروس البحر المتوسط. تركنا جذر المشكلة وأمسكنا بالفرع، فهل فكرنا فى التوقف عند دور الأجهزة المعنية كالصرف الصحى والمحليات، والسلوكيات الخاطئة لأهالى الإسكندرية الكرام وتسببها فى انسداد بالوعات تصريف مياه المطر؟ التركيز كله انصب على بدلة المحافظ وسيارته وتكبره، وأن رحيله سيعنى انفراج الأزمة وتحسن الحال، فهذا تصرف مجتمع يريد إغلاق ملفاته بسرعة البرق دون محاسبة للنفس ومواجهتها بصدق وشفافية، وهو ما يطيل أمد أزماتنا، وكررنا الخطأ نفسه، عند إثارة حكاية فتاة مول مصر الجديدة. فبرنامج ريهام سعيد قبل هذه الواقعة كان موضوعا بين أكثر البرامج مشاهدة ومتابعة من المصريين الذين تفاعلوا معه، مع أن معظم موضوعاته كانت محصورة فى أمور الجنس، والجن والعفاريت، والخزعبلات .. الخ، وتسابقت الشركات الكبرى على رعايته وتمويله، ولم يصدر عن المجتمع ما ينم عن امتعاضه واستيائه من البرنامج ومذيعته التى انجرفت فى تيار البحث عن الاثارة حتى لو جرى تحطيم ونسف المعايير الاخلاقية والاجتماعية إلى أن وقع عليها الاختيار لتصبح كبش فداء. المجتمع الرافع لواء الفضيلة والدفاع عن العفة تجنب مكاشفة نفسه بحاله وواقعه المر، فهو من شجع على العنف والبلطجة وتعايش معها حتى آمن بعضنا ايمانا لا يتسرب إليه الشك أنه لكى تستطيع العيش وتحصل على حقك عليك أن تكون بلطجيًا وعنيفًا لأبعد حد، وانظر لأفعالنا وتصرفاتنا فى الشارع وأماكن العمل، والحدائق العامة وغيرها لتتأكد مما سبق. نسينا وأغفلنا حوادث القتل البشعة والتمثيل بجثث أناس قيل إنهم من السارقين وقاطعى الطريق والقتلة المأجورين، والتمسنا الاعذار والمبررات لقتلهم بهمجية بعيدا عن يد القانون والدولة دون أن نذرف دمعة عليهم. ويستفزنى ويؤلمنى أن يكيل المجتمع بمكيالين، فهو انتفض لمعاقبة ريهام سعيد على أخطائها الواجبة العقاب الأليم، بينما تسامح وغض الطرف عن برامج حوارية مماثلة تحض على الفرقة والشقاق بين المواطنين وأدت لمذبحة «أبو النمرس» التى قتل فيها عدد من المصريين لممارستهم طقوسًا شيعية داخل منزل بالقرية، والفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، وتشويه سمعة أشخاص يتبنون مواقف مخالفة للأغلبية ومعارضين للنظام، واستباحة اعراضهم وعائلاتهم، وبلغ الأمر حد الدعوة لاحتقارهم وطردهم من جنات بلادنا، وحرمانهم من الجنسية المصرية. بالإضافة لبرامج اعتمدت على التشهير والتسريبات والمكالمات التليفونية، ولم تراع سنتيمترا من مبادئ الخصوصية التى انتهكت بنشر صور فتاة المول، وبماذا نسمى بث شريط فيديو لطفلة ترقص بالسنجة أمام جمع غفير، لم نر احدا ثار وهاج ونفرت عروقه من الحمية والغيرة على الطفولة وانتهاك استار براءتها، وبماذا نصف استضافة فائز فى الانتخابات البرلمانية فى واحد من البرامج الشهيرة ونعته خصمه «بالحقير» و«الوضيع» «والعميل» وعدم تصدى المحاور الهمام للضيف فى موافقة ضمنية صريحة منه على ما قاله، انتظرت أن تهب جيوش الفيس بوك وتويتر وتستنفر قواها للمطالبة برأس المذيع لكن توقعى كان فى غير محله. عند هذه النقطة أطرح سؤالى التالي: هل أصبحت مواقع التواصل الاجتماعى الجهة المختصة بتحديد أجندة وأولويات المجتمع المصري؟ فما أن تحركت أصابع الشباب والصغار على الفيس بوك وتويتر مطالبة برأس ريهام سعيد على وجه السرعة حتى أتتهم على طبق من ذهب، وانساق الجميع خلف الطلب بما فى ذلك جهات رسمية فى الدولة. لا انكر الدور البناء الذى تضطلع به مواقع التواصل الاجتماعى ومساعدتها فى كشف قضايا الفساد والانحراف والسلبيات الاجتماعية والحكومية، لكنها تبقى عاملا مساعدا وليس قائدا موجها للمجتمع المفترض أن يتولى مهمة رسم اجندته بدلا من فرضها عليه قسرًا من هذه المواقع التى ازعم أنها توظف لمآرب خاصة، ولا تتوخى الدقة فيما تنشره لعلمها أن الجالسين خلف أجهزة الكمبيوتر فى المنازل والمقاهى يبحثون عما هو مثير وجاذب فيندفعون بلا وعى وراء الزفة. المؤسف أن الشريحة العظمى من معدى برامج التوك شو يتابعون مواقع التواصل الاجتماعى ويجهزون فقراتهم وفقا لما هو مثار عليها، والاستثناء يكون عند وقوع أحداث كبرى كالانتخابات، وسقوط الطائرة الروسية، وجرائم الإرهاب، وفى الوسط تغيب الموضوعات المساهمة فى استنارة المجتمع وتبصيره بعيوبه ومثالبه، ويصبح التسرع سمتنا، ولذا قبل أن نذبح ريهام سعيد فعلى مجتمعنا التحلى بالشجاعة الكافية وتحمل نصيبه من المسئولية بدلا من البحث عن كبش فداء آخر. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي