تذكرت( عيسي الدباغ) بطل رواية( السمان والخريف) للكاتب الكبير المدقق( نجيب محفوظ) بعد كلمة السيد( عمرو موسي) أمين عام جامعة الدول العربية في اجتماع القمة العربية الأخير في( سرت) بليبيا. فكانت دلالات الإحباط من ضعف التعاون العربي المشترك واضحة, وهي لاتحتاج إلي دليل, فمن المؤسف أن الجميع ينادي بالتضامن العربي, وتكريس لغة الحوار بين الدول العربية لإزالة أسباب الخلافات, ومواجهة التدخلات الأجنبية في شئونها الداخلية, إلا أن ذلك مازال يقف عند حدود الأقوال النظرية لا الأفعال العملية, ومن الصعوبة أن يجتمع القادة العرب في إرادة سياسية موحدة لمواجهة التحديات المشتركة. لاشك أن الدول العربية واجهت تحديات مهولة بعد أحداث سبتمبر المشئومة, أما الجامعة العربية فمنذ غزو العراق للكويت وهي تتهددها عوامل التفكك والانهيار جراء تراجع الأمل في جدوي العمل المشترك بعد غزو دولة عربية لأخري! بالإضافة إلي النزاعات العربية العربية علي الحدود, وعلي منهج مواجهة العدو الصهيوني والأطماع الاستعمارية, ولاشك أن جل الفترة التي قضاها السيد( عمرو موسي) في الجامعة العربية كانت متخمة بالمشاكل العويصة التي هددت وجودها وأضعفت دورها, خاصة أننا نعلم أن الجامعة لاسلطة تنفيذية لها, وما هي إلا مصب لإرادات الدول العربية المشتتة, ولولا جهود الأمين العام ربما كان وضع الجامعة العربية أسوأ, وربما كان قد انتهي, وترك الشعب العربي يردد مع( عبدالحليم حافظ) في أحضان الحبايب: ابكي تحت الليالي والخوف ملو الضلوع.. قلبي يابلاد غريبة بتنورها الدموع! ولأن الشعب العربي يتمتع بروابط ثقافية وعوامل تاريخية ووشائج اجتماعية عميقة فإن الشوق للوحدة العربية يتجدد في ضمير كل عربي مخلص, برغم النوائب التي تمر عليه, ولم تنل من هذه الرؤية الأصيلة لمستقبل العالم العربي, ورغم أن هذه الرؤية سابقة لغيرها, فإن الآخرين تمكنوا من الوصول إليها, بينما منع العالم العربي الذي به ما يجمعه أكثر مما يفرقه من أن يحققها! ولذلك فإن أي خطوة نحو تحقيق الوحدة العربية, اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا هي خطوة في الاتجاه الصحيح, وتجدد الأمل في اتفاق القادة العرب علي تشكيل لجنة خماسية تضم رؤساء مصر( قلب العروبة النابض) وليبيا وقطر والعراق, بالإضافة إلي الأمين العام للجامعة العربية, لإعداد وثيقة لتطوير منظومة العمل العربي المشترك في ضوء اقتراحات رؤساء اليمن وليبيا وقطر, بخصوص إنشاء اتحاد للدول العربية, وتطوير العمل العربي المشترك, لعرضها علي القمة الاستثنائية في أكتوبر القادم. وأعتقد أن اللجنة عليها أن تبدأ عملها من بوابة الإصلاح الاجتماعي, الذي من خلاله توضع الإرادة في أيدي الشعب العربي, الذي لم يكف عن إفراز دعوات الإصلاح ومشتقاته المختلفة طوال قرنين من الزمان, فانطلقت دعوات الحداثة, أو التجديد أو الإحياء أو التقدم أو التحرر وغيرها من المصطلحات, التي عبرت عن الحراك الاجتماعي الذي يهدف إلي التحرر من التخلف والتبعية والجمود, وأدي الوعي بالواقع البائس إلي التساؤل المتواتر عن سبب تخلف المسلمين وتقدم غيرهم من حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وعبدالله النديم وسلامة موسي وشكيب أرسلان إلي دعوات الإصلاح الراهنة. وبرغم أن لا إجابة واحدة عن هذا السؤال, إلا أن تجارب الشعب العربي قد زادت من وعيه للفرز بين الدعوات والتجارب الطوباوية أو الإيديولوجية, وأصبح أكثر تقبلا للتجارب العملية العقلانية, والمراجعات النقدية لحماس الوحدة القومية أو الوحدة الإسلامية. وأعتقد أن علم الاجتماع أصبح قادرا علي قيادة الحراك الاجتماعي وتوجيهه الوجهة المرغوبة, وإن كان لايستطيع صياغة نظريات وقوانين علمية مجردة لحل جميع المشاكل الاجتماعية, إلا أن العالم الإنجليزي( بوتومور) أثبت أنه يمكن بالتطبيق العملي بطرق علمية منظمة الاستفادة منه, ولكن علي مستويات متعددة, وطرق مختلفة. فعلم الاجتماع قادر علي إمدادنا بمعلومات دقيقة, ووصف ظواهر اجتماعية, وامتداداتها الثقافية والفكرية والدينية التي تعوق الإصلاح, في كل بلد عربي علي حدة, فالبني الفكرية والمجتمعية تختلف في البلد الواحد من منطقة لأخري, وهذا لايعني التنافر والانشقاق بدلا من الفهم, والتحاور, والتواصل, فالاتحاد, فصياغة مصالح مشتركة ودائمة, تعمل علي تقوية الاتحاد علي أسس متينة, لا شعارات فوقية, تذروها الرياح مع أي خطر خارجي, أو مؤامرات مكشوفة أو مضمرة! علماء الاجتماع قادرون علي تحديد الأهداف ومستوياتها, فهناك القريب منها والبعيد, والخطوات التراكمية هي التي تشكل البناء الاجتماعي الداخلي, القادر علي تقوية المناعة الاجتماعية الداخلية ضد التدخلات الأجنبية, التي يهمها هشاشة الوضع الداخلي حتي تحقق مصالحها الحيوية بإقامة استقطابات داخلية لتفجير الوضع الداخلي عندما ترغب في ذلك, وصياغة وبناء الهرم الاجتماعي ليست معضلة إذا توافرت الإرادة الشعبية, التي تفرز بالتالي نخبا قوية تستمد نفوذها من امتداد شعبي مؤمن بأهدافها الطموح, ولايوجد أعتقد ذلك شعب ضحي وعلي استعداد دائم للتضحية مثل الشعب العربي المتشبع بالقيم الإنسانية والمثل الرفيعة. ما يجعل الأمل واسعا في الإصلاح, أن إعادة بناء الهرم الاجتماعي لا تبدأ من أسفل مثل باقي الأبنية المادية, بل يبني من أعلي من قيادات طموحه تختار ما يليها من قيادات تنفيذية كفء حتي تصل لقاعدة الهرم الاجتماعي, الذي ينتظم فيه الفرد الواعي بحقوقه وحقوق غيره من الأفراد, في نظام شفاف, ينال فيه كل مجتهد نصيبه. دور علماء الاجتماع, هو وضع خريطة طريق تختلف من بلد لآخر, وعلي مستويات متعددة, ولكنها تهدف مع التطور إلي التخلص من النزعة البطريركية الأبوية والعقلية الماضوية المتحجرة والإيديولوجيات المتعسفة. لايصمد هذا التهييف الفكري لخطط الإصلاح أمام مشروعات علماء الاجتماع العلمية, المستندة إلي المعلومات, والأصول الفكرية للظواهر, وإلي نقد التجارب التاريخية وتقييمها الواعي باستمرار, فعلم الاجتماع قادر علي وضع سياسات اجتماعية, وبناء هرم اجتماعي, يقوم علي مؤسسات مستقلة بالعلم والبحث والتجربة والشفافية, وتخضع لإعادة التقييم الاجتماعي باستمرار, لرصد نسبة التنفيذ للأهداف المرجوة وأيضا وهو الأهم معرفة التكلفة الاجتماعية للإصلاح في كل مجال سياسي واقتصادي وتربوي وإعلامي, وتلك أمور تجري بتلقائية في الدول المتقدمة التي يحكمها العلم والقانون. (عيسي الدباغ) تجسيد للظل الذي لا يستقيم والعود أعوج.. وللحديث بقية.