وكأنما صار محكوما على موسكو بأن تكابد مصير «سيزيف» فى الميثالوجيا الإغريقية الشهيرة. فها هي- وللعام الرابع على التوالي- تحاول إقناع أطراف الأزمة السورية بما سبق وقالته وأودعته «اعلان جنيف-1» الصادر فى 30 يونيو 2012. ها هى موسكو تعود «لتؤذن فى مالطة» فى محاولة لجمع الشمل فى مواجهة الإرهاب، والتوصل إلى التسوية المنشودة فى سوريا. موسكو لم تكف عن ترديد ما سبق وأكدته على مدى السنوات الثلاث الماضية، ومنذ إقرار إعلان جنيف فى يونيو 2012 . موسكو تسأل: هل كان من المطلوب الانتظار حتى تتكبد سوريا كل ما لحق بها من دمار وخراب، وحتى تبلغ «داعش» مشارف دمشق، كى يفيق العالم بحثا عن حل؟ موسكو تعلن بأعلى الصوت عدم منطقية إصرار واشنطن على الإطاحة بالرئيس الأسد على حساب تجاهل الأخطار المريعة لتنظيم «داعش» الذى يبدو عمليا «أداة الفوضى الخلاقة» التى طالما نادت بها الأمريكية كونداليزا رايس منذ مطلع القرن الجاري. موسكو تواصل الاضطلاع بدورها السياسى والأخلاقي، فيما شرعت فى القيام بدورها العسكرى لإنقاذ البشرية من جحافل التخلف والإرهاب التى راحت تعيث فى المنطقة فسادا ودمارا. لكنها فى نفس الوقت لم تنس الشرعية والاحتكام إلى القانون الدولي، وهو ما أكده الرئيس فلاديمير بوتين فى أكثر من مناسبة. ولعل استعراض ما نشرته «الأهرام» من موسكو على مدى السنوات الثلاث الماضية يؤكد صدق حدس القيادة السياسية الروسية، التى طالما نادت بالاحتكام إلى «اعلان جنيف 2012». وكان ميخائيل بوجدانوف المبعوث الشخصى للرئيس بوتين فى الشرق الأوسط- وهو المسئول الأول عن ملف البلدان العربية و»أضابير» الازمة السورية- كثيرا ما قال فى أحاديثه إلى «الأهرام» ما اختارته «كعناوين» و»مانشيتات» لموضوعاتها حول الأزمة السورية، ومنها أنه لا بديل عن الحوار، وأن تشكيل هيئة الحكم الانتقالية متروك لاتفاق الأطراف المعنية، وأن مستقبل الأسد أمر يقرره السوريون وحدهم، فيما سبق وأشار إلى أهمية مشاركة مصر والسعودية وتركيا وإيران، وهو ما أسفرت عنه مباحثات فيينا بين وزراء خارجية روسيا والولايات المتحدة والعربية السعودية وتركيا يوم الجمعة الماضية. وكانت موسكو قد اضافت الى كل ما قامت وتقوم به، ان «جاءت» بالرئيس السورى بشار الاسد الى الكرملين واجلسته الى ابرز قياداتها المعنيين بالملف السورى سياسيا وعسكريا وامنيا . بل وكان رئيس الحكومة الروسية بين الذين التقاهم الاسد فى الجولة الثالثة الموسعة للمباحثات التى استمرت حتى الساعات الاولى من صباح الاربعاء الماضى وكأنما دحضاً لما نُقِل عنه من أن موسكو على استعداد للتضحية بالاسد. ولعل ذلك يكون تفسيرا لتعجل ميدفيديف الكتابة على صفحته بموقع «الفيسبوك»- بعد لقاء الكرملين- ما يؤكد عدم صحة ذلك، وان مصير الاسد امر يقرره الشعب السورى وحده. كتب ميدفيديف:» إن موقف روسيا من قضية سوريا يظل كما هو بدون تغيير. إننا نظل نؤيد السلطة الشرعية فى سوريا». كما عاد الرئيس بوتين بنفسه ليقول فى منتدى «فالداي» فى سوتشي، وفى حضور عدد من كبار رجال السياسة والإعلام العالميين والمحليين، إنه فهم من الرئيس السورى أنه على استعداد للحوار والتنسيق مع المعارضة. وكشف عن أن موسكو فى سبيلها إلى العمل فى هذا الاتجاه، وأنها سوف تحاول العثور على الفصائل التى تحارب ارهاب «داعش»، وتقبل الحوار والتنسيق مع النظام فى دمشق». وانتقل للحديث عن العملية الجوية الفضائية الروسية فى سوريا فقال إن هناك من ينتقدها ويشيع انها تستهدف المدنيين. لقد سألناهم مرارا عن إحداثيات مواقع الارهابيين .. لكنهم لا يردون علينا .. لا يقولون شيئا. وتوقف بوتين ليستذكر احد مشاهد الافلام الروائية الروسية الساخرة. قال: اذكر مشهدا يتساءل فيه احد النبلاء : قل لى .. كيف افهمك؟ .. ماذا لى ان افهم اذا كنت لا تقول شيئا؟ ومن لغة السخرية الى احكام صبية الشوارع انتقل بوتين ليتذكر ما تعلمه فى شوارع لينينجراد: « إذا فُرِضَ عليك الشجار ، فلتبادر انت بتوجيه الضربة الاولي». وننتقل الى لافروف وما قاله تعليقا على ما قيل فى معرض لقاء فيينا يوم الجمعة الماضية حول ما سُمى ب»خطة بوتين»، وما تنص عليه حول رحيل الأسد عن منصبه: ثمة من يروج شائعات تقول أننا نتوافق هنا على أن الأسد سيرحل بعد فترة ما.. والأمر ليس كذلك. ومضى لافروف ليعلن عن اصرار موسكو على ضرورة إشراك إيران ومصر والاردن فى المشاورات القادمة بشأن سوريا. وأوضح الوزير الروسى ان بلاده قدمت خلال اللقاء أفكارا معينة حول التسوية فى سوريا، وأبلغت المشاركين الآخرين بنتائج زيارة الرئيس الأسد لموسكو يوم الثلاثاء الماضي، مؤكدا الاتفاق حول ضرورة الحفاظ على سوريا كدولة موحدة علمانية ذات سيادة. وخلص لافروف الى ان المواقف المشتركة تركز على ضرورة تكثيف الجهود بصورة ملحوظة من أجل إطلاق عملية سياسية للتسوية السورية على أساس بيان جنيف، بما يعنى بدء مفاوضات متكاملة بين ممثلى الحكومة السورية وجميع أطياف المعارضة السورية، بما فى ذلك المعارضة الداخلية والخارجية على حد سواء، مع دعم مكثف من جانب المعنيين الدوليين لهذه العملية. قصارى القول، إن موقف موسكو- وكما أكده لافروف فى ايجاز- الانفتاح على جميع أطياف المعارضة السورية، وأنها لا تراهن على جهة واحدة دون سواها فى التسوية. «موسكو لا تريد دعم مصالح الرئيس بشار الأسد حصرا، كما انها لا تريد ايضا وبنفس القدر دعم مصالح المعارضة حصرا، وإنما تنشد مراعاة مصالح سوريا، وفى مقدمتها احلال السلام، ووقف الحرب فى أسرع وقت ممكن بما يحول دون استيلاء الإرهابيين على السلطة فى دمشق، أو فى أى بقعة أخرى فى سوريا».