دون مقاومة يعتد بها، أذعنت الحكومة صاغرة لضغوط ومظاهرات طلاب الثانوية بإلغائها بجرة قلم قرار العشر درجات المخصصة للحضور والسلوك، ووجهت ضربة فى الصميم لسويداء قلب الحالمين بتطوير التعليم الذى نعول عليه فى تبديل حال بلادنا للأحسن بعد عمر طويل إن شاء الله. قرار الإلغاء كان محبطًا ومخيبًا للآمال العريضة، وعن نفسى أصنفه نوعا من أنواع العبث الحكومى اللازمة المحاسبة عليه وعدم تركه يمر دون مساءلة ومراجعة، فعيب وألف عيب، وحرام أن يظل التعليم فى المحروسة خاضعًا لأهواء وتصرفات المسئولين، مهما علا وارتفع شأنهم ومكانتهم، فهو حقل تجارب للوافدين على كرسى الوزارة، وللأسف كلها تجارب فشل ذريع يدفع وسيدفع ثمنها غاليا أبناؤنا وبناتنا الآن وفى المستقبل القريب والبعيد، ومعهم الأسر المصرية التى تستنزف وتعتصر ماليا وبدنيًا لاجتياز نفق الثانوية العامة. وأتوجه بكلامى مباشرة للمهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء، سائلا إياه: هل فكر ثانية واحدة فى كيف سيترجم المصريون قرار الإلغاء؟ جوابى الفورى وبلا تردد أننى اشك أنه أو أحدا من مستشاريه فكروا وحسبوا هذه الجزئية، فالرسالة المبعوثة للمواطن البسيط سيكون فحواها وببساطة شديدة على النحو التالي: أنه بالتظاهر تحصل على غايتك دون عناء أو مشقة - حتى لو كانت ضد المصلحة العامة فقط تحل بالصبر والنفس الطويل والمثابرة، واجمع حولك قدر استطاعتك أهلك وعشيرتك وكل باحث عن منفعة، واختر جيدا موقع وقفتك الاحتجاجية، بناء عليه فإن الحكومة تمنح قبلة حياة وتشجع وتبارك تجدد المظاهرات والوقفات الفئوية والدوران فى فلكها بعد أن هدأت وخفت حدتها فى الأشهر الماضية. المواطن سيفهم رسالة الحكومة على أنها انعكاس لداء عضال بالحكومة اسمه التردد وعدم الحسم، فحتى صباح أمس الأول كان وزير التربية والتعليم يصرح ويشدد على أنه لا رجعة عن تطبيق قرار العشر درجات، وإعادة الانضباط المفقود لمدارسنا وما تم اتخاذه من خطوات لتسجيل الحضور والانصراف الكترونيا. ثم إذا برئيس الوزراء يهدم ما بناه كثيرون من قصور واحلام بعودة الانضباط واعتدال قوام نظامنا التعليمى المتخلف الخالى من الدسم الداعم للابتكار والابداع والتجديد، الا يعد ذلك خصما من مصداقية وهيبة الحكومة، وهل ياترى ستؤخذ قراراتها ومواقفها على محمل الجد فى مقتبل الأيام، خصوصا إن وضعنا فى الحسبان سوابقها غير السارة فى معالجة ملف التعليم؟ لا أدرى بأى وجه سيواصل وزير التعليم عمله فى الوزارة بعد نسف جهده فى اتجاه تنفيذ قرار العشر درجات، وبماذا سيبرر الإلغاء الذى اتخذ فى عجلة ودون دراسة متأنية مستفيضة، ولماذا لم نسمع صوته فمن حقنا معرفة موقفه، وما إن كان موافقا عليه أم لا، ولماذا لم يدافع عن القرار لدى التشاور معه فى التراجع عنه بافتراض أنه تم الرجوع إليه؟ كنت اصبو إلى أن يصارح وزير التعليم رئيس الوزراء بالنقاط الآتية: إن التراجع سيزيد الانفلات الطلابى وسيعمقه، فغياب الرادع والعقاب سيدفع الطالب دفعا للتجاوز وعدم احترام مدرسيه على طريقة تلاميذ مدرسة المشاغبين، فإحدى فتيات عائلتى وهى طالبة فى الثانوية طارت من السعادة فور سماعها النبأ السار، وقالت حرفيا: « مش حاروح المدرسة، وعايزة اى مدرس يفتح بقه معي»، تلك ليست حالة فردية وأكاد أجزم بأنها عامة، فالطلاب هجروا مدارسهم، ولاحت بادرة أمل بعد اظهار وزارة التربية والتعليم جديتها فى تفعيل العشر درجات، فالفصول عادت تعج مجددا بالطلاب والمدرسين، ونسبيا عرف الطلبة فضيلة الالتزام الدراسي، وها نحن ندمر الجزء اليسير الذى تم تأسيسه فى الاتجاه السليم. وربما نرى الطلاب بعد نجاحهم فى الضغط على الحكومة يطالبون بتقليل ساعات الدراسة للقلة الملتزمة بالذهاب للمدرسة، وتخفيف المناهج، وغيرها من الطلبات التى لن يكون لها سقف. إن المدارس سيجرى تفريغها من الطلاب والمدرسين الذين سيشدون الرحال لمراكز الدروس الخصوصية التى ستحصد مزيدًا من الأموال والصيت ولا عزاء لوزارة التعليم والحكومة، فالمدرسة بالنسبة لهم ليست سوى المكان الذى يذهبون إليه لاستخراج رقم جلوس الامتحانات، ومقابلة الأصدقاء، وتسلم المدرس راتبه الشهري، فالثقة معدومة فى المستوى التعليمى لمدارسنا الحكومية ومعها الخاصة. وبمتابعة ما قاله الطلاب خلال مظاهراتهم لإلغاء العشر درجات ستجد أنهم اقدموا على التظاهر رغبة منهم فى تخصيص وقتهم كاملا للسنتر. فطموح أغلب المدرسين يتجه لاقتناص فرصة التدريس فى سنتر معروف يقبل عليه أولياء الأمور، ويتقاضى فيه مبلغًا معتبرًا من المال، فجهده وطاقته الكاملة لهذا المركز وليس للمدرسة، ومن ثم فإن الحكومة تؤازر المراكز التعليمية وتعمل على تمكينها من جنى الأرباح والانتشار، رغم أن الوزير الحالى لا يتوقف عن تأكيد عزمه محاربة مراكز الدروس الخصوصية وإغلاقها وتسيير حملات للتفتيش عليها وضبط مخالفاتها، أليس هذا تناقضا واضحا بينًا داخل الدوائر الحكومية؟ توجيه طعنة نافذة لمسيرة اصلاح التعليم المتعثرة منذ زمن، فمهمة الحكومة دفعها للأمام وليس اجهاضها ولا اعاقتها، فإن كانت الحكومة خافت وتراجعت عن قصة الحضور فما بالنا بما هو أكبر فى شئون التعليم؟! وبما أننا نوشك أن نرى برلمانا جديدا فإنه مطالب بوضع التعليم ضمن أولوياته القصوي، وأن يعد سياسة تعليمية مقطوعة الصلة بالأفراد فهى توجه دولة يذهب مَن يذهب، ويأتى مَن يأتى وتبقى ثابتة راسخة، ولسنا بحاجة لدراسات ومؤتمرات فخطوات العلاج واضحة للجميع فما نحتاجه هو شجاعة اتخاذ القرار والابتعاد عن العبث. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي