مثلما يعبر الزائر الممرات الضيقة المظلمة قبل أن يصل للمحراب حيث الانفراجة و الرضي يتحول كل سطر في ترنيمات الغيطاني لممر كلما تقدمنا فيه تشف الرؤية و يتسرب إلي أعماق النفس المعاني الكامنة لكل الثنائيات المُحيرة .. ثنائية الروح و الجسد و اتحاد الفراغ النسبي بالفراغ المطلق والحياة و الموت و بداية ونهاية تتماهيان في نقطه واحدة هي المركز الذي يدور و ندور حوله في رحلة الزمن.. مضي صاحب واحدة من أجمل المغامرات الروحية الساعية لاكتشاف ما يكمن وراء هذا الوجود العابر المؤقت وعبور الخط الفاصل بين الظاهر و الباطن والحاجز اللا مرئي بين الحياة و الموت.. يقولب هكذا الوقت كل شيء زائل.. كل ما نظنه ثابتا في سفر نحن نرحل في الأنفاس ننتقل باستمرار إلي أن تحل النقلة الكبري فتسافر ذراتنا في أرجاء الكون.. ما اعظم الشيخ الأكبر سيدي محي الدين اعندما قال لما كانت الحياة جمعا والموت تفرق «ذلك هو وتلك مضمون الرسالة». مضي صاحب قلم حاول أن يفسر شفرات رسائل كونية ترسلها قصائد النور وهسهسات الزخارف وابتهالات الحجر والخشب و الألوان وتكوينات المعمار،جسدتها سطور خطها لتتسرب علي مهل إلي الروح لتخطو في عالم شفاف يبعث الرضي ويستعيد المفقود من النفس بتأمل دورات الكون الخفية.. فما بين عناوين كتب ومقالات الغيطاني نبحر عبر ظلال شاحبة للحظات و أماكن و أشخاص مضوا أو تواروا في زاوية بعيدة في الذاكرة.. تتبدل الأماكن ويتغير الزمان، فيتحول الكاتب من راصد فاعل إلي متلقي لإشارات لا مرئية ولتأملات صوفية..سطور تجسد فيها اللحظة نفسها بنفسها وتنعكس علي ذات كاتبها ما قبلها و ما بعدها ليصبح التساؤل هل مر بها أم مرت به؟! .. تأتي سطور الغيطاني لتعبر عن مشروع ورؤية مزج فيها بين هموم ثقافية وقضايا وطن فيها ومحاولات لاستدعاء لما ترسب في الضمير الجمعي المصري و بين سيرة ذاتية وتأملات صوفية ومخزون من تراث أمهات الكتب، لاستنباط روح و معاني أشياء بسيطة وإن حفرت خطوطها علي ذاته وعلي صفحات الوطن، سقطت من الذاكرة في زمن تجريف الوعي... فبحسه الصوفي وغرامه بالارتحال في الزمان والمكان وشغفه الدائم بحديث الأحجار وطلاسم وإسرار الأشكال الهندسية والعلاقات المتوازية والمتقاطعة وولعه بمزج الحلم بالواقع والتنقل ما بين الظاهر والكامن اللا مرئي للوصول لحالة من الاستيطان، قدم خلاصة فكر وتجربة روحية مثلت للقارئ إطلالة ثرية علي الحياة في الماضي والحاضر.. يعيد جمال الغيطاني بناء زمن كامل من خلال تشكيله العقلي لمعابد وكنائس ومساجد وبنايات ليس فقط من منظور البناء معماري ولكن أيضا عبر تأمل التفاصيل وظلال المكان وانعكاساته علي البشر ليتحول لكون مصغر تتجاوب فيه حكايات البشر ونثار اللحظات وامتدادات الثقافة المصرية وتعدد مستويات الوعي إضافة لتجربة التواصل مع الكون والتقرب الخالق.. أدرك الغيطاني أن كل باحة و ممر وقبو وقبة تحمل شفرة ، وان الوجود أشبه بالدوائر المفرغة العالقة فوق الجدران وأن الاكتمال يتم بالرجوع دائما لنفس النقطة حيث البداية ،فالكل مسافر باتجاه المحراب حيث الوقفة النهائية.. استنطق المبدع جمال الغيطاني الأحجار و الضوء والظلال والألوان والفراغات المادية واللا نهائية ليقدم في تجلياته حالة تعانق فيها تاريخ وطن وفلسفة الفنون وتأملات وتهدج الصوفية وحكايات بشر.يقول «أتوقف عند العتبة الفاصلة للدخول إلي الحيز المظلم المظلل بالعدم» «المحراب باب الروح الباب الذي يؤدي إلي كل شيء ..أمامه يقف الإنسان فردا تماما كما جاء بمفرده و كما سيمضي بمفرد».. ستظل أعمال الغيطاني، التي تصل سطورها الظاهر بالباطن وتروي سيرة أصحاب سلطة سجلها تاريخ رسمي وسيرة ولي حميم حفظها وجدان شعبي وتفك شفرة شخصية مصر، ارتحاله روحية وفكرية في عمق الزمان والمكان.. وستبقي ترنيمات الغيطاني تجليات مصرية أصيلة ونثار لحظات توحدت مع ما خطته الحياة علي صفحة نفسه، فجاءت كلماتها لتضيء ممرات ضيقة مظلمة كُتب علينا أن نعبرها علي مستوي الروح والوطن قبل أن نصل للحظة تشف فيها الرؤية.. رحم الله الغيطاني، كاتب ارتحل وراء قبس لم يعد له أثر إلا في قلب وذاكرة أصحاب البصيرة.. http://[email protected] لمزيد من مقالات سناء صليحة