لست من مشجعى وهواة الانتقام والتشفى ممن كانوا فى يوم من الأيام بمواقع المسئولية والقيادة وملء السمع والبصر فى عهود سابقة، لكننى من أشد المشجعين والمناصرين لدولة القانون، ولا أخجل من القول إن تشجيعى لها يصل إلى حد التعصب والتطرف، فدولة القانون هى الكفيلة والضامنة فى حاضرنا ومستقبلنا لعدم اساءة الجالسين على كراسى السلطة استغلال مناصبهم، لتحقيق ثراء فاحش عبر نهب أموال الدولة والمواطن الغلبان الكادح الباحث عن لقمة عيشه بشرف وعرق. لذلك أعلن بصوت عال رفضى التام والكامل مبدأ التصالح مع رجال الأعمال والمتهمين بتضخم ثرواتهم واستغلال النفوذ، ومعظمهم قيادات ورموز من عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، لأنه يحمل بين جنباته هدما لدولة القانون التى نجاهد ونطالب باقامتها وتمتين أساساتها وقواعدها، منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، فالمخطئ تجب معاقبته بسيف وسطوة القانون، ليصبح عبرة ومثالا لكل من يفكر لحظة فى مخالفته والتربح من منصبه الرفيع الذى يشغله فى دوائر الحكم. ففتح باب التصالح سوف يشكل بوابة واسعة يمر من خلالها الفاسدون والمرتشون وكل أصحاب الذمم الخربة، فهؤلاء سيواصلون بلا هوادة وكلل عمليات النهب المنظم والممنهج لثرواتنا وأموالنا واضعين فى حسبانهم أنهم إذا ضبطوا يوما بالجرم المشهود واستدعتهم الجهات الرسمية لسؤالهم عن مصادر ثرواتهم، وقصورهم الفخمة، وحساباتهم البنكية المتخمة بالداخل والخارج، فالحل جاهز ومضمون وهو هيا بنا نتصالح وعفا الله عما سلف، لتأخذ الدولة مالها وينعموا هم بحياتهم الرغدة دون أن ينالوا عقابهم المستحق على ما اقترفته أيديهم من جرائم لسنوات متعاقبة. أعلم وحضراتكم تعلمون أن الجزء الأكبر من أموالنا المنهوبة مستقرة بمصارف أوروبا وأمريكا وجزر البهاما، فقد كانوا يتحسبون لتغير الحال والنظام، واحتياجهم لزاد يقيهم شرور وضوائق الزمن إن جار عليهم، حتى لا يحرموا من نعيم الحياة التى اعتادوا عليها. إن التساهل مع هذه الفئة سيبعث برسالة شديدة السلبية لعموم المصريين الذين انتظروا طويلا خضوع رءوس الجميع لسطوة القانون، فقد تحسروا وتألموا فى الماضى وهم يتابعون «الحيتان الكبار» يلتهمون ويحتكرون خيرات البلاد، ويتصرفون وكأن مصر عزبتهم الملاكى يفعلون فيها ما يحلو لهم فى الوقت الذى يختارونه، وكانوا يقولون فى جلساتهم ومنتدياتهم الخاصة إنه لا أحد يجرؤ على الاقتراب منهم، والمساس بهم، فما بالك بمعاقبتهم؟. فالدولة ليست وحدها صاحبة حق تود استرداده، فكم من مواطن ومواطنة أهُدرت حقوقهم ودهست تحت اقدام من فتحت لهم الأبواب المغلقة للثراء الفاجر، ومنحوا التسهيلات والتيسيرات، فهل يجوز التغاضى عن حقوقهم، ألا يستحقون أن يكونوا فى الحسبان عندما نفكر فى اعلاء راية التصالح؟ خوفى الأساسى ينصب على احتمال أن يفهم المواطن الخطوة على أنها محاباة لأناس كانوا لأعوام خلت يعيشون فى ابراجهم العاجية غير عابئين ولا مكترثين بهموم وأوجاع المصريين المطحونين، وأنهم لم يفقدوا تأثيرهم ونفوذهم، حينها سنفقد دعما شعبيا من واجبنا المحافظة عليه ومراعاته وتدعيمه، حتى مع الاعتقاد السائد بأن التصالح سيعود بفوائد جمة على خزانة الدولة وسينعشها، وما أحوجنا لإنعاشها فى ظل الظروف الاقتصادية والمالية الدقيقة التى يمر بها الوطن. فالعائد المتوقع من المصالحة لا يزال فى طور التمنى والرجاء، ولا يعلم سوى الله عز وجل ما إن كان سيكتب له التحقق أم لا، فرب قائل إن الدولة سوف تسترد نحو 150 مليار جنيه، المبلغ ضخم ويسيل اللعاب، ويدفع الذهن للتفكير فيما سنفعله به، وفيما سينفق على الصحة، أو التعليم، أو الطرق، أو تحديث شبكة المواصلات والصرف الصحى وغيرها من الخدمات. وستتولد عنه توقعات واحلام لا ظل لها من الحقيقة، بعدها يستيقظ المصريون على الواقع، وأن ما تمت استعادته من أموالنا المنهوبة ليس بالكثير، ولنعد لتجربتنا التالية للخامس والعشرين من يناير حينما امتلأت الساحة بشائعات وأقوال مرسلة غير مستندة لحقائق عن ثروة مبارك وعائلته وعن مليارات الدولارات المودعة بخزائن بنوك سويسرا، والنعيم الذى سنرفل فيه بعد إعادتها، وراح بعضنا يحسب بالورقة والقلم نصيبه من هذه المليارات، وحتى الآن لم نحصل على شىء من اموالنا في سويسرا، ولا يجوز تكرار الخطأ نفسه مرة أخرى. فقد هرعت بعض صحفنا السيارة إلى نشر تقارير وتحقيقات عن أملاك وثروات العديد من مسئولى عهد مبارك، مما يوحى بأنها ستؤول عما قريب للخزانة العامة، أو أنهم سيتنازلون عنها تجنبا لمساءلة جهاز الكسب غير المشروع وبقية الأجهزة الرقابية وينتهى الأمر بثورة توقعات لا يتناسب المتحقق معها مع ما كان يأمله ويرجوه الناس. إن رفض دعوات المصالحة بعيدة كل البعد عن المطالبة بقطع رءوس المتهمين، فغرضها اعمال القانون وتطبيقه بالملي على المخالفين، وأن يكون تنفيذه معتمدا كلية على الوثائق والبراهين والدلائل وليس بلاغات واهية خالية من الاثباتات والأسانيد، فروح القانون مرحب بها إن كنا نمر بظروف طبيعية، وترسخت اقدام دولة القانون، فلا تهاون مع الفاسد وناهبى المال العام، فدولة القانون تحثكم على عدم التصالح، فلا تتصالحوا. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي