لو وقفت القوى الكبرى والإقليمية مدافعةً بحزم عن الاتفاق السياسى الذى توصل إليه مبعوث الأممالمتحدة لحل الأزمة الليبية واقتراحه الخاص بتشكيل حكومة انتقالية مثلما فعلت إزاء أزمات جنوب السودان وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى لأجبرت أطراف الأزمة على قبول الاتفاق والحكومة المقترحة وأغلقت الباب أمام المساومات الرامية لتعديلهما والتهرب من تنفيذهما.لكن إذا اكتفت بإصدار البيانات وإطلاق التهديدات بمعاقبة الذين يعرقلون الاتفاق فسوف يستمرئون معارضة كل اقتراح لتبقى الأزمة فى طريق مسدود فتستغل الجماعات الإرهابية والمتطرفة مثل داعش والقاعدة غياب أجهزة الدولة للسيطرة على مساحات إضافية من ليبيا وتهديد أمن دول الجوار ومصالح الكبار. فما أن أعلن برناردينو ليون اقتراحه بتشكيل حكومة وفاق وطنى تدير شئون البلاد لمدة عامين بدءاً من بعد غد (الثلاثاء) وأسماء رئيس الحكومة ونوابه ورئيس المجلس الأعلى للدولة (هيئة استشارية) حتى سارع أعضاء فى مجلس النواب المنتهية مدته (برلمان طرابلس) ومجلس النواب المعترف به دولياً (برلمان طبرق) بإعلان رفضهم بعض الأسماء المقترحة ووصفوا الحكومة بأنها حكومة شقاق لا وفاق ومشبوهة وزعموا أن الاتفاق سيؤدى إلى تقسيم ليبيا.كما اتهموا المبعوث الدولى بمحاولة لعب دور الوصى على الشعب الليبى مع أن الرجل اختار رئيس الحكومة ونوابه الثلاثة من بين الأسماء الواردة فى القوائم التى قدمها له أطراف التفاوض ولم يخترهم لأنهم من أصدقائه.فرئيس الوزراء فايز السراج من عائلة لها تاريخ سياسى عريق ويمثل نوابه الثلاثة أقاليم ليبيا التاريخية الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان) وقوبلوا جميعاً بترحيب من الخارج والداخل باستثناء أولئك المحسوبين على تيار الإسلام السياسى فى برلمان طرابلس وبعض الذين لهم حساباتهم القبلية والسياسية الخاصة فى برلمان طبرق. يرفض البرلمان الشرعى الاتفاق السياسى بسبب استجابة المبعوث الدولى لبعض مطالب البرلمان غير المعترف به بإدخال تعديلات عليه بعد أن وقَّع عليه الأول مع أطراف أخرى بالأحرف الأولى فى الصخيرات بالمغرب،كما رفض عدد من أعضائه تشكيلة الحكومة المقترحة لأسباب من بينها وجود قادة من ميليشات فجر ليبيا فيها وبحجة أن الاتفاق لا يدعم الجيش الوطنى بقيادة اللواء خليفة حفتر فى محاربته الإرهاب واتهموا ليون بتسليم ليبيا للإخوان المسلمين.فى الوقت نفسه رفض أعضاء فى برلمان طرابلس حكومة الوفاق بزعم أنها مشبوهة وتعمِّق الانقسام الوطنى وطالبوا المبعوث الدولى بتعديل الاتفاق السياسى الذى رفض برلمانهم التوقيع عليه بالأحرف الأولى فى الصخيرات.كما أعلن مجلسهم عن تنظيم ورشة عمل لإعداد مشروع اتفاق بديل وهو ما لن يستجيب له المبعوث الأممى على الأرجح. وبينما لاحت فى الأفق بارقة أمل فى أن يعيد البرلمان المنتهية ولايته النظر فى موقفه بعد أن أعلنت ميليشيات فجر ليبيا المهيمنة على طرابلس والداعمة له تأييدها لترشيح السراج لرئاسة الحكومة وإعلان 45 من أعضائه تعاونهم مع المبعوث الدولى وتهديدهم بالانسحاب من عضوية المجلس، وهو ما يُعتبر ضربة موجعة له كان يمكن أن يتخلى عن تشدده بسببها، فوجئنا بالمبعوث يَضعُف أمام الانتقادات الموجهة لاقتراحاته فيما يبدو أنه بداية تراجع عنها بقوله إنه إذا ثبت أن الحكومة المقترحة غير مؤهلة لقيادة ليبيا فى هذه المرحلة سيتعين على البعثة الأممية أن تعيد النظر فى عملها.كذلك قوله إن مجلس الرئاسة هو الذى سيختار أعضاء الحكومة مع أن هذا المجلس مازال مجرد أسماء على الورق فى الملحق الأول للاتفاق السياسى ولن يخرج إلى النور إلاّ بعد تصديق كل الأطراف على الاتفاق وملاحقه. وبذلك تراجع ليون عن رفضه الحاسم السابق لأى تعديلات أو اعتراضات،الأمر الذى يضرب مشروعه فى مقتل لأنه يشجع المعترضين على الاستمرار فى تعنتهم دون اكتراث بتهديدات الدول الكبرى أو مجلس الأمن بمعاقبة معرقلى الحل السياسى. مشروع الاتفاق السياسى لا يواجه فقط رفض أعضاء فى البرلمانين وحكومتيهما وإنما أيضاً رفض الجماعات المسلحة المتعددة الساعية لتحقيق مكاسب جديدة من خلال القتال فضلاً عن الخلاف حول صلاحيات الجيش بقيادة حفتر الذى يصر برلمان طرابلس على إزاحته بأية وسيلة.كما أن هناك من أتباع برلمان طبرق مَن طالبوا بإغلاق الحوار وحسم الخلاف عسكرياً رغم صعوبة ذلك فى ضوء توازن القوى العسكرية القائم مما يجعل النتيجة الوحيدة المؤكدة إطالة أمد الحرب. يحدث هذا الجدل البيزنطى بينما يتمدد تنظيما داعش والقاعدة الإرهابيان بثبات على الأرض الليبية دون أن يكون هناك رادع قوى لتحركاتهما ويعيش الجنوب الليبى الشاسع فى حالة انفصال شبه تام عن الدولة التى غابت مؤسساتها عن حياة المواطن فحدث انفلات أمنى ونهب وسلب وتهريب للسلاح والبشر على نطاق واسع وصراع على ثروات البلد من البترول والمعادن النفيسة الأخرى مثل الذهب فضلاً عن التقاتل الدموى بين أبناء القبائل المؤيدين منهم والمعارضين لثورة فبراير التى أطاحت بنظام الدكتاتور معمر القذافى الذى جثم على صدر الشعب الليبى 42 عاماً وبدَّد عائد ثرواته فى إشباع مغامراته الوحدوية الفاشلة وعشقه للزعامة وتنفيذ أفكاره الغريبة. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى