عندما ظهرت أغنية «يامه القمر على الباب» عام 1957 تاليف مرسي جميل عزيز، وألحان محمد الموجي، وغناء المطربة الجديدة فايزة أحمد، حققت نجاحا جماهيريا كبيرا، بل إنها كانت سببا في نجومية المطربة، لكن هذا النجاح الكاسح للأغنية قابله نقدا شرس ولاذع من جانب المجتمع المصري والعربي، حيث تقدم البعض لرئيس الإذاعة المصرية - آنذاك - بتقرير مطول يطلبون فيه ضرورة منع إذاعة هذه الأغنية!!. ........................................................................وقال التقرير: «إن الأغنية ناجحة، ولكن كلماتها فيها خطورة على البنات الصغيرات والمراهقات، لما تحمله من معانٍ تفتح عيون البنات، وربما تخدش الحياء العام بما تحمله من جرأة فى التعبير!! حيث يقول مطلعها: «يامه القمر على الباب/ نور قناديله/ يامه أرد الباب ولا أناديله يامه القمر زعلان/ مسكين بقى له زمان عينه على بيتنا/ باين عليه عطشان وحد م الجيران وصف له قلتنا/ اسقيه ينوبنا ثواب/ ولا أرد الباب/ يامه». ولم يقتصر منع هذه الأغنية على الإذاعة المصرية فقط، فقد أصدرت وزارة الأنباء الأردنية (الإعلام) قرارا بمنع إدراج الأغنية فى برامج الإذاعة، وذلك بناء على توصيات الجهات الدينية فى الأردن التى اعتبرت كلمات الأغنية مخلة بالآداب وتتنافى والرسالة الخلقية التى درجت عليها إذاعة الأردن. ولم تهدأ الضجة المثارة حول الأغنية إلا بعد تدخل المفكر والأديب الدكتور طه حسين الذى كتب قائلا: عندما أذيعت أغنية الشاعر مرسى جميل عزيز الشهيرة «يامه القمر على الباب» حققت نجاحاً وانتشاراً كبيرين، ولكنها تعرضت للهجوم من البعض بدعوى أن فيها جرأة، ولكن الحقيقة أن فيها من البلاغة أضعاف المئات من قصائد الشعر العربى، وإذا لم تفتح الأبواب لهذا الصوت الجديد «فايزة أحمد» بتلك الكلمات فبأى كلمات ستفتح؟!. نفس الهجوم تكرر مع رائعة الموسيقار الكبير كمال الطويل، والشاعر المتميز مأمون الشناوي «ليه خليتني أحبك»، فبعد تقديمها في فيلم «الحبيب المجهول» بطولة ليلى مراد، وحسين صدقي، وكمال الشناوي، وإخراج حسن الصيفي، خرج الجمهور من صالة السينما وهو يردد أغنية ليلى مراد « ليه خليتني أحبك» نظرا لشجن وعذوبة اللحن المتطور جدا فى هذا الوقت. وكان طبيعيا أن تطلب الإذاعة المصرية من منتج العمل أغنيات الفيلم لتذيعها للجمهور المتعطش لفن وصوت ليلى مراد، والتى كانت الشائعات تردد أنها فى طريقها للاعتزال، وبالفعل بدأت الإذاعة فى تقديم الأغنيات، لكن بعد أيام قليلة توقف البعض عند أغنية « ليه خليتني احبك»، خاصة الجملة التى تقول « فين تهرب من ذنبك؟ .. روح منك لله»، وطالب المتشددون بوقف إذاعة الأغنية لأن الجملة المذكورة تؤكد أن الحبيب غدر بحبيبته وأخذ منها أعز ما تملك. ونظرا لجمال لحن وكلمات وأداء الأغنية، طلب رئيس الإذاعة من الموسيقار كمال الطويل ومأمون الشناوي، أن يتم إعادة تسجيل الأغنية كما هي مع تغيير الجملة المذكورة، وبالفعل قام الشناوي باستبدال الجملة، بجملة آخرى تقول « فين تهرب من حبك؟ .. روح منك لله»، وعندما عرض المؤلف والملحن على ليلى مراد الأمر، رفضت رفضا باتا أن تعيد تسجيل الأغنية. ولم يجد الطويل مفرا من اللجوء إلى صديقته المطربة الجديدة التى كان يساندها ويقف بجوارها «نجاة الصغيرة» لإعادة تسجيل الأغنية، ورحبت نجاة وسعدت جدا بإعادة التسجيل، ومنعت الإذاعة أغنية «ليه خليتني أحبك» بصوت ليلى مراد، وركزت وكثفت إذاعة الأغنية بصوت المطربة الجديدة نجاة الصغيرة التى حلقت بهذه الأغنية فى السماء، وكانت أحد أسباب نجوميتها مع أغنيتها الأخرى «عطشان يا اسمراني محبة». ما جعلني أسترجع هاتين الواقعتين تحديدا، وأترحم على زمن الغناء الجميل، ما سمعته من أغنيات جديدة فى بعض ألبومات صيف 2015 خلال الأسابيع القليلة الماضية، نظرا لما تحويه من كم هائل من ركاكة الكلمات وتشابه واقتباس فج للألحان، والأخطر من كل ذلك وهو ما يهمنا : التحريض على الدين والإيحاءات الجنسية، فضلا عن الخروج على التقاليد، إنها أغنيات لو قدمت فى العصر الماضي لطالب الجمهور بمنعها ومحاسبة أصحابها ومعاقبتهم على الفور بتهمة الغباء المتعمد والجهل بقيم المجتمع العربي. غربة الأديان الحالة الأولى: جاءت في ألبوم المطرب اللبناني رضا «رضا 2015 «الذى طرح مؤخرا ومن بين أغنياته واحدة بعنوان «يا غربة الأديان» كلمات وألحان مراد أبوزور، وتوزيع وائل عياد ويقول مطلعها: «حبينا ولتئينا وصرنا أحباب/ ودابو عينينا حتى القلب داب وافترقو إيدينا وما عملنا حساب/ لغربة الأديان قصة وكلمة غريبة تاخد مني حبيبي وتسرق من قلبه الطيبة». إلى أن يصل فى نهاية الأغنية إلى « ياريت بترحل من هون وتنقل على تاني كون/ ويصير الحب من اليوم كتاب الإيمان». فلأول مرة فى تاريخ الأغنية العربية نجد كلمات أغنية تلوح بالخروج من «الملة» والذهاب للعيش على كوكب آخر أو كون غير ذلك الكون الذى نعيش فيه، كما إنها تلخص الدين في جله من عقيدة إلى مجرد « قصة وكلمة غريبة»، وهو تلخيص يعد مخلا بحسب الأديان جميعا، لهذا كان من الطبيعي أن تفتح باب السجال والفرقة والاختلاف بين رواد موقع اليوتيوب، الذين ذهبوا بخيالهم إلى آفاق من النقد اللاذع تارة على جناح الاستنكار وتارة أخرى نحو الاتهام بالخلل والتطرف. وعلى ذكر تلك الواقعة، ففى الماضي القريب وتحديدا منذ عشرين عاما قدم المطرب كاظم الساهر أغنية بعنوان « يا ساكنة حينا» ، والحقيقة أن الساهر - وقتها - لم يطلب من حبيبته أن تتخلى عن ديانتها، ولكنه من فرط حبه لها طلب أن تظل على ديانتها المسيحية، ويبقى هو على ديانته المسلمة، مراعيا تقاليد المجتمع العربي، ومحافظا في الوقت ذاته على طهر حالة الحب. ليس لها ماضي الحالة الثانية: من الفرق المتميزة على الساحة الغنائية فريق «بلاك تيما» الذى قدم ألبومه الأول «بحار» عام 2010 ، ومؤخرا طرح أعضاء الفريق ألبومهم الثاني «غاوي بني آدميين» الذى جاءت بعض أغنياته متميزة وتحمل مفردات طريفة، ومن هذه الأغنيات أو بصورة أدق من هذه المنولوجات، منولوج « يا برنس الليالي» الذي يقول مطلعه: «الفرح بقى بنزين 80، والحزن على بطاقة التموين، والعربية في التليين، ومشواري للتبين». هذا المنولوج الغنائي يحمل خفة ظل وطرافة بلاشك ، لكن الأغنية التى استفزتني واستفزت كثيرين غيري، خاصة من الجنس اللطيف « البنات»، أغنية بعنوان « ليس لها ماضي» كلمات محمد عبده، وتوزيع ومكساج توما. كلمات الأغنية على ركاكتها وقلة حيائها أقل ماتوصف بالوقاحة - كلهم «منداسين»، والأخطر أننى وجدت تعليقات الشباب على موقع اليوتيوب في حالة من الغفلة والبلادة وقلة النخوة تتضامن مع كلمات الأغنية بشكل سافر. ولا أنفي أن أغنية «ليس لها ماضي» لا يقتصر جانبها السلبي على مجرد نوع من الانحراف الخلقي فحسب ، بل على العكس ربما يمتد خطرها – إن أغفلنا التصدى لهذا اللون - لأنها قد تقلل من عزم وهمم بعض الشباب، وقد تساعد على زيادة معدلات العنوسة عند البنات، وربما عدم إقبال الشباب على الارتباط، رغم أن الأغلبية من بنات مصر يحملن براءة وطهارة وخجلا ربما يكون غير متوافر إلا عند البنت المصرية! ميريام ... بزمتك الحالة الثالثة : المطربة اللبنانية ميريام فارس تطل علينا فى ألبومها الجديد «آمان» بأغنية تحمل مفردات جديدة على قاموس الأغنية العربية بعنوان « بذمتك» كلمات صفوح شغاله، وألحان سعد الدين سراج، وتوزيع ميشال فاضل، يقول مطلعها: «بذمتك عايزني أصدق قصتك ورسمتك بذمتك عايزني أحفظ سمعتك وكلمتك بذمتك عايزني أبقى قسمتك، ونسمتك بذمتك طب والتلاتة اللي ما زالوا فى عصمتك وعذمتك» وبعد فاصل من التوبيخ العلني تصل في نهاية الأغنية إلى رفض المطربة الارتباط برجل متزوج قبلها بثلاث نساء، ورغم وجاهة فكرة الأغنية، إضافة إلى أن الزواج من أربع فى مجتمعاتنا العربية مازال قاصرا على الطبقة المخملية، فقد جاءت تعليقات المشاهدين على مواقع تحميل الأغنيات تخلو من تأييد الفكرة أو رفضها على سبيل الدعابة كما كان متوقعا، بل جاءت كنوع من الإسقاط المباشر على المطربة ذاتها بقول أحدهم « شكلها تقصد زوجها الأمير اللي تزوجته»، وبعضهم قال : « أخيرا عرفنا ليه ميريام مخبية اسم زوجها ولم تعلنه، لأنه متزوج من ثلاثة قبلها»، والبعض الثالث، ويبقى أكثرهم رجاحة في عقله رد قائلا : «هو فيه حد قادر أصلا يتزوج مرة واحدة، مين اللي هيتجوز أربعة إلا مليونير»! تفريط فى الشرف الحالة الرابعة: وربما كانت هى الكارثة، هى أغنية المطربة «زيزي عادل» والتى ظهرت «بلوك» جديد وغريب فى أحدث أعمالها الغنائية، حيث قامت بقص شعرها وظهرت من خلال غلاف ألبومها الجديد « أنا أنثى» مثل الشاب، وبعيدا عن الجرأة التى ظهرت بها على مستوى الشكل، والتى لا تتفق مع مجتمعنا الشرقي، بل تناسب الغرب أكثر! كانت هذه المطربة الأكثر خروجا على المألوف فى اختيار بعض أغنياتها، معتبرة بذلك أنها متحررة، أو جريئة أكثر، لكنها الجرأة غير المحسوبة، والتي تمثلت فى أغنية «سبت نفسي ليه» كلمات وألحان المطربة، وتوزيع محمد شفيق، وتحكى الأغنية عن قصة ندم بنت سلمت نفسها لحبيبها ففقدت أعز ما تملكه « شرفها» والغريب إنها أعطته شرفها غصب عنها، ولا أدري كيف حدث ذلك ؟!. والسؤال الذي يؤرقني ويؤرق الكثيرين ممن سمعوا الغنوة: ما هو الهدف الذى تريدين الوصول إليه يا زيزي، ببث تلك السموم بين البنات؟ وما الحكمة البليغة من وراء تقديم هذه الأغنية الغارقة في ضحالة اللغة والمعاني، حيث تقول بعض كلماتها: لو أقدر أقول اللي انكسر يتصلح مكنتش يوم ندمت على اللي فات ومش معقول يجيلي يوم تانى وأفرح، والموضوع بالنسبة ليا مات سبت نفسي ليه مصعبتش عليه وصعبت على نفسي بس اللي يضيع واحدة هيضيع ميت واحدة. ويضيع أكتر لو يقدر أديتك أغلى حاجة أديتها غصب عني وأنت اللي طلبتها مني وندمت أنا بعدها» كايروكي الحالة الخامسة: جاءت في ألبوم فريق «كايروكي» الجديد «ناس وناس»، حيث وصف الفريق الإعلام «بتقل الدم»، وانتقد مذيعى «التوك شو» وأطلق عليهم لقب «البلياتشو» كل ذلك في أغنية «التليفزيون» كلمات أمير عيد، ألحان وتوزيع كايروكي، ولم يقتصر نقدهم على ما يدور في الفضائيات، ولكنه طال أيضا أغنيات ومسلسلات هذا الزمن. نوال وإيحاء جنسي الحالة السادسة كانت في ألبوم « مش مسامحة» للمطربة اللبنانية نوال الزغبي التى ظهرت على غلاف الألبوم وهي تعطي ظهرها للجمهور، بفستان نصفه عاري!، ورغم تميز بعض الأغنيات إلا أن بعضها جاء صادما للجمهور، والآخر استهلاكيا لا يحمل أي جديد خاصة أغنيتي «يا جدع» و«مش مسامحة» فالأولى التى حققت نجاحا كبيرا على الأنترنت كلامها سطحي جدا ومن على قارعة الطريق ولا يحمل أي تجديد، فتجد مفردات من عينة « يا جدع أنا حبيتك يا جدع، وعلى حسك أنا أتدلعت دلع»، والثانية كلماتها فيها كثير من التناقض وغير مترابطة فالحبيبة بنت الناس « الكويسة» زعلان من نفسها، وتريد ترك الناس قليلة الأصل اللي ميلوا بختها» كلمات ليس مبذول فيها أي جهد، وفكرتها مكررة، ولا أدري ماذا حدث ل»عزيزالشافعي» الذى كانت بداياته تحمل كثير من الأفكار اللامعة الجديدة المبتكرة غير المستهلكة! أما الأغنية الصادمة في الألبوم والتى تحمل العديد من الإيحاءات الجنسية فهي أغنية « غازلني» كلمات حسين الشريفي، وألحان حاتم العراقي، وتوزيع عمار العاني، والتى تطلب فيها المطربة من حبيبها أن تظل في حضنه، ولا يبتعد عنها . وماذا بعد؟ بعد انتهاء عرضنا لبعض أغنيات ألبومات صيف 2015 ، والتى تحمل أسماء شهيرة ومحبوبة لدى الجماهير، علما بإننا لم نتوقف عند كم الإسفاف الذى تحمله أغنيات المهرجانات، والفوضى التى تسمى نفسها بالأغنية الشعبية، وذلك حفاظا على الشعور العام لجموع المستمعين من ناحية ، ومن ناحية أخرى حتى لانساهم في شهرة خفافيش تحمل ألبوماتهم نوعا من النشيج والنشاذ غير المحتمل. لكن وماذا بعد ؟ ذلك هو السؤال الذى نطرحه الآن: والذي يفتح الأبواب على مصراعيها للبحث عن أسباب ذلك الذى حدث للمجتمع المصري، جراء ضمور واضح في الإبداع، وترهل غير مسبوق في القيم، ولعل في ماضينا بعض الحكمة عندما انتفض المجتمع المصري والعربي، وقامت قيامته فى الخمسينات بمجرد سماعه لأغنيتين - ذكرناهما في البداية – رغم أنهما تحملان ضمن مفرداتهما بعض التلميحات والإشارات التي لاترى إلا بالكاد. أليس أحري بنا الآن ونحن نبحر الآن في بركة آسنة من ألوان تخاصم الغناء بقدر ما تخاطب الغريزة في تجلياتها المرعبة، فتزلزل عرش القيم، وتسعى لزعزعة العقيدة باسم الحب؟. أرجو أن ننتبه قبل حلول كوارث غنائية جديدة علينا يوم تلو الآخر، بينما نقف نحن ولا يبالي أكثرنا بما يشاهده أو يسمعه؟ والنتيجة مزيد التدهور الذى يظل يصدع جدار الأخلاق والقيم، ومن ثم ينهار حصن الذوق الغنائي الرفيع، حتى نصل إلى قاع هذا المستنقع السحيق من الابتذال والتدني.