السيف أصدق أنباء من الكتب فى حده الحد بين الجد واللعب، بيض الصحائف لا سود الصحائف فى متونهن جلاء الشك والريب، والعلم فى شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا فى السبعة الشهب، كانت هذه أشهر أبيات القصيدة الطويلة التى مدح فيها الشاعر العربى الكبير (أبو تمام) الخليفة العباسى (المعتصم بالله) بعد انتصاره على الإمبراطورية البيزنطية وفتح (عمورية) بعد استغاثة المرأة العربية الشهيرة: وا.. معتصماه! ومن البديهى ألا يكون هدفى من ذكر أبيات (أبوتمام) التباهى بموقعة تاريخية مهمة فى التاريخ العربي، أو كما يفعل الديماجوجون بالتباكى على زمن العز والكرامة الذى ضاع!، ولكن أهمية التاريخ لا تكمن فى وقائعه وأحداثه، ولكن فى فهم مغزى الحدث، والمعنى الذى حرك الوقائع، وهذا المعنى يتكرر مادامت الإنسانية تتفاعل، عكس وقائعه التى لا تتكرر أبدا، فكل أمر مرتبط فقط بزمنه وأشخاصه، وفلسفة العصر التى تحكمهم مهما بلغت عظمتهم! المعنى الذى مجده (أبو تمام)، وأراه مفيدا فى وقتنا الراهن، هو تمجيد القوة والحسم، ومعرفة الخطر ومنابعه، ومواجهتها بالقوة التى تستحقها لتسحقها، بلا ميوعة أو هروب، تحت دواعى الشك والريبة من المواجهة، فقد واجه (المعتصم بالله) إمبراطورية قوية، وحذره المنجمون من نتيجة الحرب، وإن الشهب السبعة التى اعتمدوا عليها لمعرفة الغيب، تؤكد أن لا قدرة للجيوش العربية بجيوش (توفيل بن ميخائيل) إمبراطور البيزنطيين،الذى هدد البلاد الإسلامية وخرب المدن والقرى الإسلامية المتاخمة لإمبراطوريته، وهتفت سيدة من بلدة (ملطية) التركية (وامعتصماه)، بعد أن قتل وهدم وسبى القرية بكاملها، فلم يلبى (المعتصم بالله) من باب الشهامة العربية النداء من أجل إمرأة، ولكن من أجل الدولة، لم يكن (توفيل) ليقنع بما أخذ، مادام لا يوجد من يقف أمامه، ويوقف زحفه، فإن لم يذهب إليه (المعتصم)، فبلا أدنى شك فإنه سيجيء إليه، ليسيطر على الدولة الإسلامية بالكامل برجالها ونسائها أجمعين وهو ما حدث للدول العربية الواحدة بعد الأخري، حتى أوقف البطل (عبدالفتاح السيسى) الخراب العربى! فدرس المعتصم الكبير هو معرفة مصدر الخطر عمليا وإلى أين يتجه وماهى أطماعه، وحدود قوته وأهدافه، ثم الدفاع المنظم بتجميع القوى المتاحة، واستخدام ما يتيحه العصر من قوة، واستحضار ما يلزم من عزيمة لدفع الخطر، قبل أن يصل إلى أعتاب منزلك، ونحن الآن نواجه خطرا حديثا لا يتعلق بقوة السلاح فقط، لكن خطر يهدد الهوية الحضارية الجامعة للمنطقة العربية التى تتميز بعوامل مشتركة تاريخية وثقافية! بعد حرب الهويات المحبوكة، أصبح الحلم العربى الحفاظ على الدول العربية المنقسمة من انقسامات جديدة بإحياء الأيديولوجيات منتهية الصلاحية، أو اللعب على الغرائز الدينية! كان الإعلام أهم الأسلحة الفتاكة لتدمير الهوية العربية، مثلهم مثل سحرة المعتصم، فيدمر العرب والمسلمون أنفسهم بأيديهم، بعد أن فشل الاستعمار الأمريكى بفرض سيطرته الكاملة على الأرض، فى أفغانستان والعراق وليبيا، بقوة السلاح الغاشم الباطش، فاستخدمت الأيديولوجيات التى تعاديها، لكى تعادى بعضها البعض أولا، فلا يبقى منها إلا القليل، الذى تستطيع تدميره فيما بعد بسهولة، فكانت الوسائل الإعلامية من فضائيات وشبكة التواصل الاجتماعى تعج بالتشكيك عن حق وعن كذب، فاختلطت الأوراق، لتنفجر الأوضاع فى وجه الحكومات العربية وتتساقط واحدة تلو الأخرى إلى غير رجعة، فلا يخفى على أحد أهمية الإعلام فى التدمير أو البناء! فالإعلام أصبح منصة حرب لا قنوات تسلية! ولا يصح فى زمن الحرب أن يترك الجمهور لقوى التلاعب! مسرح الإعلام أصبح معلوما للجميع من فيه، «المؤلف» الذى يرسم أدوار «الممثل» الذى نراه، لكى يشكل اتجاهات رأى عام معينة، وينتج وعيا زائفا لأهداف المؤلف والمنتج، فلا ننتظر إعلاما ناضجا من أصحاب المصالح الاستعمارية، أو رجال الأعمال أصحاب المصالح الاستثمارية، فأنتج إعلام مشكاح وريمة وما على الاثنين القيمة، لا يقدم قضايا ناضجة، ويكون حلقة وصل بين الرأى العام ومشكلاته الكبرى وبين صانعى القرار فى الدولة ومؤسساتها، بينما يكتفى الإعلام النيء بشكله العام بالإثارة والتركيز على قضايا فردية، ويوجد منها حالة اجتماعية كاذبة، لصناعة اليأس، كما حدث مع طالبة صفر الثانوية العامة، وما أخذته من جدل فى جميع وسائل الإعلام، فإذا كان من مصلحة الأعداء ومصالحهم إغراقنا فى إعلام السخرية والنقورة، الذى يكفى أن يبدأه عميل فى أمريكا ، ليجر وراءه عددا لا بأس به من الهلافيت ليعوموا على عومه، لكسر الأمل فى نفوس الناس، التى تحتاج لمن يقوى عزيمتها للعمل، ويدلها على حل المشكلات والأزمات الاجتماعية، التى تحاصرهم، ويحاصر العادات السلبية، ويبنى تقاليد وقيم إنسانية عميقة، تحتاج لعملية تثقيف مكثفة، لإعادة بناء الواقع وتكوين اتجاهات جديدة، ترفض الهبل والشعوذة، وترتب الأولويات، وتفرح بالإنجاز، أملا فى المزيد، وتوسع نسق المعتقدات وكسر الأغلال الوهمية، كل هذا وأكثر يقع على عاتق الإعلام، ويحتاج إلى «مؤلف» وطنى يرسم الطريق «للممثل» الإعلامى الذى يعى خطورة دوره الناضج فى فترة حرجة لا تحتمل الإعلام النيء المضر بالجمهور الوطنى كله. لمزيد من مقالات وفاء محمود