يفرش عبد الحليم حافظ مدى الوطن بصوته، بينما يفتش «أيوب» المصرى فى ذاكرته المتآكلة بفعل عوامل الزمن والألم، يفتش عن لحظات انتصار، يحلى بها ما شاب آخر الأيام من مرار، تعزف ألحان وجعه فيشدو «حليم»، (عدى النهار والمغربية جاية ..). يلملم «أيوب المصري» شتات ذاكرته الموجوعة، فيتذكر أن (السكة) صنعها الرجال، بيقينهم فى أن شمس مصر القادمة، لابد أن يُخَضِّب ميلادها دم حر، إنه الوعد الذى قطعه الرجال على أنفسهم فى الخنادق، (أبكي.. أنزف.. أموت .. وتعيشى يا ضحكة مصر)، وفى السادس من أكتوبر عام 1973م ضحكت مصر وضحك (أيوب المصرى) ضحكة نابعة من إيمان قديم برب يحرس وينصر. ظل (أيوب المصري) طيلة ست سنوات، يصارع الهزيمة على مدار أيامه ناراً، ويرقب عدواً اغتصب سيناء ليرميه بالنكسة عاراً، ويرفع ناظريه إلى السماء كل حين، أملاً أن تُجرى أسباب النصر على يدى قومه، انتصر أيوب وآلُهْ حين استردوا الثقة بالوطن، وتوحدوا فى مواجهة العدو، وجابهوا كل أشقاء العروبة ليقاوموا من سلب فلسطين فى أيام الغفلة، ثم راح يوسع حدود ما سرق فى أيام الوهن. ظن (أيوب المصري) أن الانتصار بوابة الازدهار، وأن شعوباً جربت قوة التوحد لن تستسلم لفُرقَة، وأن شعباً روى بالدم للنصر راية لن يُسلم للوهن سواعده، لكن دراما التآمر كانت أحكم من كل حبكات النهايات السعيدة. أوى (أيوب المصرى) إلى شرفة تطل على عصر (الانفتاح) وما تلاه، شاهد الحرب تضع أوزارها، وقبل أن يحدث ذلك كان الأشقاء يتخاصمون، وكان الأبناء على غنائم عصر الانفتاح يتقاتلون، وعلى منابر دين الانفتاح يخطبون، وفى فنون الانفتاح يغرقون، وراح السؤال يطرق وعى (أيوب المصري) لأول مرة (هل ذهب الرجال فى حرب الانتصار ولم يعودوا؟). كان سؤالاً مراً وكانت هزائم ما بعد الانتصار الأكثر مرارة منه . لم يكن يسيراً على (أيوب المصرى) أن يستوعب أن واقع ما بعد الانتصار لم تتلاش من مداه أصداء (عدى النهار)، حتى عجز نهارنا المولود من رحم الانتصار أن يدفع مهر بلد على ترعة الأمل القديم تغسل شعرها، لقد تربى (أيوب المصرى) على الإصرار فى معركته ضد (الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين والغناوى المجروحين)، وما كان لهذا الليل يوماً مهما بلغ سلطانه أو سطوة ظلمته أن ينسينا (الصباح .. أبو شمس بترش الحنين) . لقد عاش (أيوب المصرى) يهتف عمره (بالروح بالدم نفديك يا زعيم)، لم يكن يعبد زعيماً أو رئيساً قدر ما كان يهتف لرمزيته التى تنوب عن الوطن، وحين قررت عصور الفساد والإفساد أن تختصر الوطن فى شخص، وأن تنسب انتصار الشعب لفرد، وأن تحيل أبسط حقوق الحياة إلى عطايا والرعية لا تستحق، وأن تُغَيِّر فطرة عشق البلد للنهار ومواله. حينها قرر (أيوب المصري) أن ينتفض باحثاً عن ضى الوطن الذى كان ينتظره طوافاً، وأن يثور لحلم البلد الأصيل الذى صاغه الأبنودى شعراً يُغَنَّى (بالسنابل والكيزان .. تحلم ببكره .. و اللى حيجيبه معاه .. تنده عليه فى الضلمة و بتسمع نداه .. تصحى له من قبل الأدان .. تروح تقابله فى الغيطان ..) . فى 25 يناير 2011، عبر (أيوب المصري) من جديد نحو نهار، شمسه تُجسد الضى عيشاً بغير ذل، وحرية بلا فوضي، وعدالة دون انتقاء، وكرامة إنسان صنع منذ فجر التاريخ حضارته، غير أن قطعان الليل التى سكنت عصور الفساد والإفساد، أبت إلا أن تؤمم النهار القادم، وأصرت على أن تشتت ضياه الواعد، وحاصرت بأسوار دينها براح إسلام لا حد لمداه، ومن جديد عاد (أيوب المصري) إلى ميدان التحرر ليخوض جولة جديدة عنوانها تحرير الوطن من تنظيم يأسره، وعتق للدين من جماعات امتهنته توظيفاً وامتطته سُلَم سلطة . ويدرك (أيوب المصري) أن كم العِلَل المستوطنه فى بدنه، تثقل مسيره نحو نهاره المأمول، فلقد (انتصر فى السادس من أكتوبر) رغم ما ألم به من أمراض، ولكن روح المعركة غادرت ساحة الوغى دون أن تسرى منها صوب ميادين البناء فى كل وادٍ، كما أن نُبلَ من خاض غمار العبور اصطدم بحسابات من تاجر بسلام الانتصار، حتى ضاعت قيّمٌ حررت الأرض ورفعت لنهار الوطن رايات. أربكت كثرة الرايات وعى (أيوب المصري)، فتش فى وجوه تُنَظر وأخرى تُؤَطِر، قلب فى مشاريع سياسية لم تنضج، وفى مسارات ثورية لم تبارح أفلاطونية الطرح، ليكتشف أن الأوطان من حولنا تتفجر، وأن الشعوب الشقيقة بأيديها تُذبح وتُهجر. فقرر أن يولى ثقته أحد أبناء المؤسسة التى تجاوزت ليل النكسة إلى صبح العبور . وفى الذكرى الثانية والأربعين للعبور إلى النهار المأمول، يقف (أيوب المصري) على أعتاب رئيس مصر، عيناه رغم سنين الوجع لم يفارقها الأمل، تعقدان رايته بناصية رئيس ينتمى لانتصار جيش الشعب، يُلقى (أيوب) على رئيسه مهمة العبور الجديد بمصر نحو نهار تحاصره شراذم إرهاب غادر، وتعانده فلول فساد قادر، وتراوغه أدران بدن عن سنوات الإفساد صادر، لتُجسد فى مجملها ملاحم عبور جديدة على الرئيس أن يتترس فيها بجيشه الشعبي، ليُفعل طاقاته درعاً تتصدى لكل تطرف، وحصنا يأبى أن يسلبه فسدة الليل ضى نهاره ، ومصلاً يُبرئ بدن الوطن والمواطن من أدران السلبية والروتينية واللامبالاة والانهزامية. على مدى عقود عدة مضت، استحال كل مواطن شريف حر فى هذا الوطن إلى (أيوب) طال صبره، وآن الآوان ليجد هذا الأيوب من يستخدمه للعبور من عصر المواطن البور إلى بر مواطن صبحه منصور، تماماً كما عبر جيش الشعب قناة السويس إلى بر سيناء. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى