على الرغم من هامشية دوره ومحدودية تأثيره بفعل خسارته غالبية الجغرافيا السورية لايزال الرئيس السورى بشار الأسد يشكل نقطة تجاذب رئيسية سواء فى إطار التفاعلات السياسية الخاصة بتسوية الصراع أو فى سياق التحركات العسكرية المباشرة وغير المباشرة التى إما تستهدف إسقاطه أو تسعى إلى دعم سلطاته. فقد عكست تحركات روسيا العسكرية على مسرح العمليات السورى منذ أبريل الماضى الرغبة فى إعادة خلط الأوراق ونقل الحديث من تسوية تُقصى الأسد إلى حل سياسى يحركه الأخذ بعين الاعتبار محورية بقاءه ورمزيته للحفاظ على ما تبقى من هيكل الجيش السورى والمؤسسات السياسية والأمنية، حتى لا يعاد إنتاج مشاهد ما بعد سقوط نظام صدام حسين فى العراق أو معمر القذافى فى ليبيا. وبينما ساهمت التحركات الروسية التى تصاعدت وتيرتها وكثافتها خلال الأيام الأخيرة فى إعادة تموضع الأسد فى ساحة الصراع، بل و«تعويمه»، فإن الخلاف كما يبدو ليس على الحل السياسى للصراع وإنما على آلية تغير القيادة بما يعنيه ذلك من حرص كل الأطراف على الحفاظ على مصالحها فى سوريا ما بعد الأسد، خصوصا أن كافة المؤشرات تشير إلى أن سوريا لن تعود إلى ما قبل مارس 2011. وعلى الرغم من أن المعركة حول بقاء الأسد ورحيله فى حد ذاتها لا تشكل أكثر من معركة رمزية لاستراتيجيات «إدارة المخاطر» وترسيخ مداخل تحقيق المكاسب من صراع استنزف قدرات أطرافه التى اتسعت لتشمل قوى إقليمية ودولية، فإن هذه المعركة وفق التطورات الأخيرة الرابح فيها قد يكون الأسد ذاته، ذلك أن كافة الأطراف قوّْته حتى حينما أراد البعض منها إضعافه. إعادة تعريف الأدوار اختلفت خارطة التفاعلات السياسية فى الإقليم بعد التوصل لاتفاق بشأن البرنامج النووى الإيرانى (14 يوليو 2015) وباتت إيران لاعبا غير منعزل على الساحة الدولية، بما ساهم من ناحية فى أخذ مواقفها الداعمة لنظام الأسد بعين الاعتبار، وأفضى من ناحية أخرى إلى تسريع تدابير دعم النظام السوري، سواء من خلال العتاد العسكرى أو الإسناد البشري، والتى تشير تقديرات إلى أنه بلغ خلال الآونة الأخيرة نحو 15 ألف مقاتل من الإيرانيينوالعراقيين والأفغان فى محاولة لتعويض الخسائر التى لحقت بالنظام السورى منذ بدية العام، هذا بالإضافة إلى الاستمرار فى تقديم الدعم المالى للنظام، بما رفع من فاتورة بقاء الأسد بالنسبة للإيرانيين، وتشير تقديرات إلى أنها وصلت بالفعل لنحو 35 مليار دولار منذ تفجر الصراع فى سوريا. ردم الفجوات ومع أن رحيل الأسد ظل شرطا أساسيا لقوى إقليمية ابتغت إعادة تشكيل التفاعلات الإقليمية من خلال خصم سوريا من رصيد إيران الإستراتيجي، كبعض دول الخليج وتركيا، غير أن ثمة تحركات عبر قنوات غير معلنة تشير إلى أن ثمة فجوات تردم بسبب ارتفاع تكلفة الصراع وتنامى حدة التداعيات غير المقصودة بسبب انتقال خطر التنظيمات الإرهابية إلى داخل أغلب هذه الدول، فضلا عن تعبئة القدرات على ساحات الجوار المباشر باتت تتطلب التريث على ساحات الجوار غير المباشر. وقد التقى رئيس مكتب الأمن القومى السورى اللواء على المملوك أثناء زيارته لجدة وزير الدفاع السعودى محمد بن سلمان، ورغم تعدد المطالب السعودية التى ألقيت على مسامع المملوك، فإن اللقاء فى حد ذاته يشير إلى أن ثمة تحولات كبرى تشهدها ساحة الصرع، خصوصا إذا ما أخذ فى الاعتبار كثافة التحرك الخليجى فى الآونة الأخيرة حيال روسيا. هذا إضافة إلى ضرورة الأخذ فى الاعتبار أن التطورات الدراماتيكية التى شهدتها قدرات الأسد العسكرية ترتبط بالتنسيق الخليجى التركى الذى تجسدت أبرز صوره فى تشكل جيش الفتح فى مارس الماضي، وما تلى ذلك من خسائر ميدانية كبرى لنظام الأسد، غير أن هذا التحالف المرن بات يشهد بدوره تحولات أفضت إلى الموقف الذى أعلنه مؤخرا الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، أحد أشرس المناوئين للرئيس السورى عبر قوله إن الأسد يمكن أن يشكل جزءا من مرحلة انتقالية فى البلاد. وفيما يعبر ذلك عن تحول فى المواقف فإنه يجسد بدرجة أكبر إعادة تعريف للأدوار بناء على تغير الحسابات، فأحيانا الحسابات المهملة تصبح بالنهاية الحسابات الحاسمة فى تحديد التوجهات وصوغ نمط السلوكيات، (كالقضية الكردية بالنسبة لتركيا، وتصاعد العمليات الإرهابية بالنسبة لبعض البلدان الخليجية)، خصوصا أن سقوط نظام الأسد لا يعنى وحسب ترسيخ حكم أمراء الحرب فى سوريا على غرار ما حدث فى الصومال بمرحلة ما بعد سياد برى، وإنما وقوع مذابح طائفية بحق العلويين قد تعجل بتفجر صراعات إقليمية مباشرة قد يبدو متهورا من ينزع فتيلها، لأنها ستصيب داره قبل جواره. المصالح الروسية يبدو أن العودة بمربع الحديث عن مستقبل الأسد إلى مربع رقم واحد يرتبط بالأساس بالتطورات التى سعت من خلالها موسكو التأكيد على أن الأسد باق فى حكم ما يطلق عليه «سوريا المفيدة» (مدن الشريط الساحلى غرب سوريا)، وأن الرهان على انهيار سريع لحكمه بعد خمس سنوات من الصراع المسلح، لن يكون ببعيد عن ذات الرهان قبيل اندلاع الثورة. وبينما تتعدد التصريحات الروسية بشأن عدم قبول حل سياسى من دون الأسد كشريك فيه وبميدان القتال ضد التنظيمات الإرهابية، فإن ذلك يجعل روسيا مرتبطة بتحالفات مرنة يتخللها صراعات منضبطة مع كافة الأطراف فى الإقليم (بلا استثناء)، ذلك أن الدعم غير المباشر لنظام الأسد تحول إلى تواجد عسكرى مباشر ومعلن، ويصعب معه تخيل أن تقدم قوى إقليمية أو دولية على تصعيد عسكرى مقابل. وبينما يخلق ذلك فرصا للقوى الحليفة مع الأسد، فإنها يحكم سلوكها ويضبط سياساتها وكذلك بقية الأطراف (إيران وحزب الله فى مقابل إسرائيل على سبيل المثال). قد يكون المعطى الرئيسى فى التصريحات المتتالية بشأن إمكانية مشاركة الأسد فى المرحلة الانتقالية، والتى تصدر عن دوائر صنع قرار غربية وما يكتنفها من تردد وقلق، مرتبطا بالأساس بأن روسيا استخدمت إستراتيجيتها المعتادة فى وضع قدمها وسط ميدان الصراع (على طريقة الاحتلال القديم) مطالبة الجميع بمراعاة مصالحها قبل الإقدام على التفكير فى طرق تسوية الصراع عسكرية كانت أم سلمية. فالرغبة الروسية فى الحفاظ على آخر قاعدة عسكرية خارج إطار دول الاتحاد السوفيتى السابق، وفى ضمان مصالحها فى المرحلة التى تشهد إعادة تفكيك وتركيب دول الشرق الأوسط، دفع إلى التخطيط إلى وجود طويل الأمد عكسته من ناحية درجة التسليح وكثافته ومن ناحية أخرى نمط الانتشار العسكري، خصوصا فى منطقتى طرطوس واللاذقية. فقد قامت روسيا بنقل العشرات من قواتها وعناصرها القتالية، ونحو 6 دبابات إصدار «T-90» و15 من مدافع الهوترز ونحو 35 من ناقلات الجند، وزهاء 200 من عناصر المارينز الروسي، فضلا عن أماكن مخصصة لإعاشة نحو 2000 مقاتل، وطائرات استطلاع استخدمت فى العمليات القتالية، قبل طلعات الطائرات الحربية، وذلك فى تطور نوعى بتكتيكات الحرب. كما أرسلت موسكو العديد من الطائرات منها 12 طائرة SU-25 ومثلها مسافة Su-24 و4 طائرات SU-30، وصواريخ دفاع جوى (تتضمن نظام الدفاع الجوى SA-22) والعديد من طائرات الشحن Cargo Planes، كما أقدمت روسيا على تأسيس قاعدة عسكرية جديدة فى اللاذقية (فى الجنوب الغربي) كما تعمل على توسعة قاعدة Tartus البحرية (50 ميلا جنوب اللاذقية)، وإعادة تأهيل مطارى الباسل ودمشق. وهنا، تتعدد أهداف روسيا من ذلك ويتمثل البعض منها فى فرض الأسد كأمر واقع ضمن مقاربات تسوية الصراع فى سوريا، من خلال رفع مستوى قدرات النظام الهجومية والدفاعية والقيام بعمليات عسكرية مشتركة للسيطرة وبسط النفوذ على مراكز حيوية واستنزاف قدرات التنظيمات الإرهابية البشرية والتسليحية، بما يساهم فى رفع معنويات نظام الأسد وعناصر الجيش السوري. التفاعلات الداخلية سابقة الأعمال التى جرت فى العراق وليبيا تجعل النظام البعثى فى سوريا بدرجة كبيرة ملتفا حول الأسد، رغم ما يشكله ذلك من أعباء متصاعدة، خصوصا أن الدوائر التى تحيط بالأسد ضيقة، سيما داخل الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، وثمة توجه لاعتماد الحرب إلى آخر طلقة خصوصا أن الإحباط الذى بات يصيب جميع القوى الإقليمية والدولية المناوئة للأسد من جراء تحليه بالقدرة على البقاء وسط ركام التحديات، فضلا عن الدعم الإقليمى (إيران- حزب الله) والدولى (روسيا) جعل الهواء (السلاح- الأموال- المقاتلين) قادرا على الوصول إلى «قلب النظام» (سوريا المفيدة) رغم تصلب «شرايين الأطراف»، بفعل تزايد الدعم للجماعات المسلحة بصيغها المختلفة خصوصا الإرهابية منها (داعش- النصرة). إن التحالفات الحاكمة المركبة فى سوريا (الدروز - العلويين – البعثيين - الأكراد) باتت تتعايش مع صافرات الإنذار وعمليات القنص وصوت المدافع، وتضع خياراتها بناء على أن السيناريو الأسوأ قد يكون فى دولة الشريط الساحلي، الخاضعة للانتداب الروسى والنفوذ الإيراني، فيما سوريا الباقية المفتتة يقتسمها الأكراد والأتراك وأمراء الحرب بالوكالة لأطراف إقليمية أخرى. لذلك فمثلما قد تغدو عودة الدولة السورية الموحدة صعبة، فإن سقوط الأسد سريعا يبدو على ذات الدرجة من الصعوبة، فالتحرك الروسى والتطورات الإقليمية أضحت تضمن ألا يكون الخروج فوريا، وإنما بعد مرحلة انتقالية يشارك فيها (ولو رمزيا) وتضمن له ولشركائه تأهيل شخصية من رحم النظام. سيناريو مقتبس ويبدو أن السيناريو الأكثر رجوحا هو سيناريو مقتبس (روحا وليس نصا) مما حدث فى مصر بعد ثورة 25 يناير، حيث إمكانية أن يتم تشكيل قيادة عسكرية مشتركة تشمل بعض التنظيمات المعتدلة تدير البلاد عبر تشكيل حكومة انتقالية (وحدة وطنية) مع تعبئة الجهود لمحاربة التنظيمات الإرهابية وتشكيل مؤتمر وطنى لإعلان مبادئ دستورية، ورغم أن ذلك سيواجه تحديدات عديدة، غير أنها قد تطيل من بقاء الأسد فى السلطة وليس إقصاءه عنها.