لا أحد يختلف على طلاوة صوت فايزة أحمد.. وأقول : »طلاوة« وليس »حلاوة«..ليس من باب البلاغة.وإنما لأن هذه الصفة تضيف إلى المعنى : أصالة ولذة.. وإلى مبنى الكلمة ذاتها : متانة وقيمة.. ولا جدال فى هذا، فان صاحبة الصوت الجميل قد عشقت الجمال أينما كان طوال عمرها، وأعطت كل غرامها المضفر فنسيج مشاعرها للأغنيات التى صدحت بكلماتها.. ملتزمة باللحن لكن مشحونة بالإحساس ! ومن عشقها للجمال.. صار »عقدة حياتها« وبسببه وأعمار البشر مقدرة فقدت حياتها دون أن تكمل العام الثالث بعد الخمسين من عمرها.. فهى من مواليد الخامس من ديسمبر 1930.. وأسدل عليها الستار فى الحادى والعشرين من سبتمبر 1983. ولقد تعرفت على هذه المطربة العظيمة منذ أكثر من نصف قرن لكنى فى الحقيقة لا أتذكر متى وكيف التقيتها؟ غير أنه من المرجح ان ذلك كان فى أواخر عام 1958 أو أوائل عام 1959 وكانت فايزة قد جاءت الى القاهرة من دمشق فى منتصف الخمسينيات وسرعان ما اعتمدتها الاذاعة المصرية كمطربة لتميز صوتها وبروز موهبتها والتقت خلال هذه المرحلة الأولى من حياتها المصرية بعازف الكمان عبد الفتاح خيرى وتزوجا وأقاما فى حى شبرا..، وفى تلك الأثناء لفتت نظر الملحن الموسيقار المبدع محمد الموجى الذى كان جواهرجيا مدققا مغرما بمعادن الأصوات النادرة فوضع لها لحن أغنية »أنا قلبى إليك ميال« تأليف الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى.. وحققت الأغنية نجاحا باهراً.. فكرر الاثنان المؤلف والملحن التجربة بأغنية : »ياأمه القمر ع الباب« التى قفزت بفايزة إلى الصف الأول للمطربات الذى نستثنى منه العملاقة أم كلثوم ومع انطلاقتها الفنية تعرضت حياتها الخاصة للعواصف فانفصلت عن زوجها.. وبحثت لها عن مسكن جديد حتى استقرت على شقة استأجرتها فى عمارة تطل على نهر النيل فى شارع المنتزة بالزمالك.
واذكر انه فى بداية إقامتها بالشقة الجديدة، شب حريق فى المطبخ المطل على »منور« العمارة وسلمها الخلفى.. وأبلغت شرطة النجدة وسرعان ماجاءت سيارتها وقوة من رجال الحماية المدنية الاطفاء والحمد لله ان النيران لم تمتد الى داخل الشقة وتمت السيطرة عليها .. لكن فايزة أحمد اتهمت طليقها بالتسبب فى الحريق وذكرت هذا فى محضر الشرطة.. وبالطبع فان الصحف نشرت هذا فى اليوم التالى، وانفرد الأهرام بتفاصيل أكثر لأن فايزة كانت قد اتصلت بى كصديق وكصحفى ونشرنا هذا فى الصفحة الأولى وصفحة داخلية مع الالتزام بما جاء فى المحضر الرسمى بلا زيادة ولا إدانة لأحد.. وقد تولت النيابة التحقيق واستدعت كل الأطراف.. وانتهت الى الحفظ لعدم وجود أدلة معتبرة اتهام فايزة أحمد لطليقها بسبب مناوشات وحساسيات مابعد الطلاق !! وبعد أيام لاأتذكر كم عددها ذهبت إلى النادى الماسى بشارع عدلى وسط القاهرة وهو مقر الفرقة الموسيقية الماسية التى أسسها وقادها الموسيقار أحمد فؤاد حسن..فى هذا النادى.وكان موعدى مع بروفة أغنية لعبد الحليم حافظ من ألحان كمال الطويل. المهم.. انه بعد جولة فى البروفة .. أخذت البروفة استراحة قصيرة.. اتجهت إلى عبد الحليم لأحدد معه موعداً للقائه
بعد أن ينتهى.. ثم خرجت ليلحق بى العازف عبدالفتاح خيرى ويشتبك معى بحدة محتجا على ما سبق نشره.. لكن حوارنا المحتد لم يستمر اكثر من دقيقتين وربما أقل إذ أن كمال الطويل كما عرفته من قبل ومن بعد والى ما قبل رحيله وخلال جلساتنا فى شاطىء عايده بمنتزه الاسكندرية كان مهذبا متحضرا راقيا.. وقد شاهد خيرى وهو يخرج فى أثرى وشاهد، وهو فى الداخل وعبر الباب المفتوح تعبيراتنا الغاضبة فأسرع الينا.. وانضم مؤيدا رأيى إذ لم ننشر اكثر مما جاء فى المحضر الرسمى.. ثم فى اليوم التالى نشرنا ان التحقيق انتهى بحفظه.. وقال لخيرى انه مخطئ وطلب منه ان يعود الى حيث زملائه فى الداخل.. ووقف معى يهدئنى. وعلى أى حال.. فقد انتهت الحكاية عند هذا الحد.. وطبعا لم أذكرها لفايزة.. واستمرت معرفتى بها.. وكنت أتصل بها تليفونيا أو تتصل بى.. وفى كل مرة عشقا فى الغناء كانت تشدو بمقطع أو أكثر من أغنية لها سواء كانت قديمة أو جديدة تجرى بروفات لها.. أو.. تسلمت كلماتها لتبدى الرأى فيها..
وفى تلك الفترة كانت ساحة الغناء.. دافئة.. متلألئه.. بنجوم زاهرة.. فى إطار مناخ ثقافي فنى.. ورؤية شاملة واضحة للدولة.. واهتمام الإذاعة بأداء دورها فى الانتاج الموسيقى والغنائى ورعاية الموهوبين.. لا ننسى هنا دور المهرجانات والسهرات الغنائية المحترمة وفى مقدمتها برنامج «أضواء المدينة» الذى كان يقدمه الاذاعى القدير جلال معوض فى سهرة شهرية لم تكن فقط تحسن تقديم المطربين والمطربات المشهورين وانما أيضا كانت تقدم المواهب الجديدة.. فكان البرنامج مدرسة راقية للموسيقى والغناء.. ووسط هذا المناخ الصحى اشتدت المنافسة الإيجابية بين العاملين فى الحق الثقافي الفنى.. وفى نفس الوقت كان طبيعيا وبشريا ان تشتط المنافسة السلبية وان يتحلق حول كل نجم عدد من الذين يحترفون دق الطبول وحرق البخور.. ويشعلون نار الغيرة، وقد حدث هذا والأمثلة عديدة ومنها ما جرى بين فايزة أحمد وبين صباح.. فبينما كانت صباح ترى انها الأوفر جمالا وفتنة، فهى الصبوحة الشحرورة شمس الشموس..! وبين الاثنتين جرت مياه كثيرة عكرها المستفيدون والمستفيدات ومنهن كانت ممثلة كوميدية بدينة تعرف كلا من الغريمتين وتنقل عنهما ما يزيد الخلاف ويحقق لها مصالح مادية.. وليس هذا فقط لبروز الخلاف على صفحات الصحف والمجلات المصرية واللبنانية التى كانت رائجة فى الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها فى مصر وسوريا، وانغمس فى الخلاف صحفيون وكتاب وكان لصباح نصيب أوفر للدفاع عنها نظرا لاتساع علاقاتها.. واستمر هذا الى حد أن جمال عبدالناصر الذى كان يقرأ الصحف جيدا ويهتم بكل صغيرة وكبيرة اهتم بالأمر.. خاصة ان هذه الموجه من الصحافة غير الملتزمة قد طالت فنانين آخرين ومنهم فريد الأطرش، وطلب عبدالناصر وقف هذا الانحدار المهني والأخلاقى.. وقال فى اجتماعاته المغلقة مع المسئولين ومساعديه.. قولته التى صارت بعد ذلك صكا وهى: «ان الفنان ثروة قومية.. ينبغى المحافظة عليها». فى ذلك الوقت كنا كما أشرنا فى الجمهورية العربية المتحدة، حيث امتدت الجسور بين مصر وسوريا فى كل مجال وعلي كل مستوى.. ومن بين ما شهدته تلك الفترة رحلات عديدة ومن بينها ما كان ينظمه المجلس الأعلى لرعاية الشباب الذى كان يديره عمليا سكرتيره العام عادل طاهر وزير السياحة فيما بعد ويساعده حسين منتصر الذى كان قبلها ضابط شرطة ولاعب كرة سلة مشهورا.. وكانت الرحلات لشباب من سوريا يجيئون الى مصر.. وشباب من مصر يسافرون إلى سوريا.. وفى عام 1960 كان لى حظ المشاركة فى إحدى هذه الرحلات.. باعتبارى صحفيا فى الأهرام أغطى أعمال المجلس الى جانب مهام أخرى.. وقبل السفر كان طبيعيا ان أتصل بصديقتى «فايزة أحمد» وأخبرها عن رحلتى الى مسقط رأسها.. فأوصتنى بضرورة أن أزور والدتها فى حى المهاجرين من أحياء دمشق الراقية حيث تقيم مع «فريال» ابنة فايزة ولم تكن قد جاوزت العاشرة من عمرها ومع مصطفى شقيق فايزة وكان فى بداية العشرينات. وبالفعل.. فإننى عندما وصلت إلي دمشق اتصلت بالوالدة.. واتفقنا على أن أزورها فى المساء.. وحدث والتقيت بها وكانت معها فريال وهى بالمناسبة تقيم الآن فى القاهرة مع أبنائها إذ كانت قد جاءت الى مصر وتزوجت بالمطرب أحمد السنباطى ابن الموسيقار رياض رحم الله الاثنين وبرغم مضى كل هذه السنوات.. فإننى لا أزال أتذكر هذا اللقاء الدافىء الودود.. وتدفقت بين شطآن النهر الذى كانت تطل عليه فايزة كل صباح ومساء.. مياه النيل الغزيرة.. وحققت المطربة نجاحا وراء نجاح فى الغناء لكنها لم تصب حظا فى السينما عكس غيرها الأضعف صوتا والاكثر اهتماما بجمال المظهر.. فى حين انها كانت ترى الجمال فى الصوت والإتقان.. وان كانت تحيط نفسها بكل ما هو جميل وتعشقه. وفى يوم فوجئت بها تتصل بى وتدعونى لزيارتها وبإلحاح شديد.. ولما ذهبت قدمت لى النقيب مختار العابد بالجيش الأول (السورى).. وأضافت وهى تقدمه لى: «انه: زوجى، وجلسنا نتعارف. وكان مختار العابد.. شابا وسيما ممشوقا.. متحدثا لبقا. وجدت فيه ضالتها..وسندها.. فهى برغم الشهرة والمعارف كانت وحيدة.. ووجد هو فيها استكمال الوجاهة والمركز الاجتماعى.. وعاش الاثنان فى سعادة.. غير أن ذلك لم يستمر سوى أسابيع معدودة.. وإذا به يتصل بى لنلتقى ويعبر لى عن شعوره بالملل، فهو لم يعد محور اهتمامها الأول.. فالغناء هو حياتها.. والموسيقى زادها وزوادها.. ووقتها كله للفن تبحث عن كلمات مع مؤلف أو تنافش ملحنا فى نغمة.. وما بين تسجيل أغنية وحفل تشارك فيها.. تجرى بروفات، وشعر أنه معزول عن هذا العام وأصابه الملل! وكنت أسمع له وأحاول تهدئته قائلا ان فايزه «مخلوق غنائى». وشغلها الشاغل هو ان تغنى «والحمد لله يا أخى أنها لا تهتم بشىء آخر»! وانقلبت حياة الزوجين إلى جحيم.. وكانت تتصل بى وتشكو.. وكان هو يلتقى بى.. ويشكو ويقول انها قد حطمت حياته ومستقبله.. ولم يعد سوى: «جوز الست»!! ولم يعد ممكنا ان تستمر الحياة بعد هذا.. فكان الانفصال.. وعاد مختار العابد إلى سوريا.. وفى هذا الوقت، كانت فايزة تؤكد مكانتها.. كما كانت قد انتقلت من مسكنها فى الزمالك إلى شقة أخرى فى عمارة بجاردن سيتى تطل أيضا على النيل.. وأعطت كل اهتمامها للغناء.. فهى تمتع نفسها قبل ان تمتع الجماهير.. ولقد سمعت شخصيا الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب يقول «ان فايزة.. صوت نادر وحنجره ذهبية» تعشق الغناء.. وان تمكنت من الميكروفون وتركوها فسوف تغنى وتغنى ولن تتوقف!» وجرت وتجرى مياه نهر النيل الذى عشقته فايزة فاحتضنها وتطورت أحوالها إلى الأفضل وتزوجت بالموسيقار المثقف محمد سلطان وهو من عائلة سكندرية أحب الفن وبدأ ممثلا بعد تخرجه في كلية الحقوق.. وغنت من الحانه وأنجبت منه ولكن رغم كل هذا وبحثا عن الجمال، قيل لها انه بعملية بسيطة فى الوجه والصدر يمكن ان تكونى أجمل، فوافقت وسافرت وأجرت الجراحه المطلوبة وحدث تغير فى الشكل.. لكنها فيما بعد شعرت بالتعب وأصابها المرض القاتل الذى أدى إلى الوفاة، فهل كانت جراحة التجميل هى السبب؟ إن الشواهد تقول هذا وأيضا بعض المتخصصين.. فقد يكون المرض من الآثار الجانبية.. وقد يكون لأن هذا النوع من الجراحات وقتها غير متطور بمثل ماهو الآن؟ وقد تكون المسألة قضاء وقدرا..! لكن شواهد أخرى تدلل على هذا مثلما حدث مع الفنانة الممثلة الراحلة ناهد شريف التى كانت جميلة، لكنها احتاجت الى ان تكون أفضل.. فكانت الجراحة وكان المرض اللعين!! ويا.. من كنت مخلوقا غنائيا جميلا ورائعا.. يا .. من كنت عاشقة للحب والحياة سلاما عليك.. ورحمة من الله سبحانه.