وسيبقى جمال الغيطانى هو الأديب البارع فى تصوير فساد وقهر الدولة البوليسية ، عندما يتحكم فيها «البصاصون» كما صورها فى رواية الزينى بركات لمواجهة القمع والظلم والاستبداد والوشاية والتسلط فى حياتنا ! وسيبقى الجيش عنده هو «العمود الفقرى» للحضارة المصرية، فهو لديه مؤسسة حضارية وليست عسكرية فقط ، لأنه تراث وطني طويل جدًا. ذات التراث رُبما ، هو الذى جعله فى وعكته الصحية يلجأ إلى هذا المستشفى العسكرى .. الذى يعيش فيه تجلياته الآن .. إنها ليست مصادفة ! ................................................................................. لا لم تكن مصادفة ، فالأديب ،الصحفى ، الكاتب ، الروائى ، الفنان ، الموسيقى ، الرسام جمال الغيطانى ، هو المواطن المصرى المعجون بكل ذرة من تراب وطنه ، ولايعبأ إلا به هو، ولايرى سواه .. فكيف يرى غيره ، وهو يجرى فى عروقه مجرى الدم ! جمال الغيطانى ..هو «الصعيدى» المولود عام 1945 ، القادم من سوهاج ..وهو «الشعبى» الذى عاش بحى الجمالية بالحسين فى حارة الطبلاوى ، وهو من تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة عبد الرحمن كتخدا، وأكمله فى مدرسة الجمالية الابتدائية،وحصل على الإعدادية من مدرسة محمد علي ، وبعدها التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية ، حتى يقلل على والده عبء مصروفات تعليمه ! بعدها استطاع الغيطاني أن يعمل كرسام في المؤسسة المصرية العامة للتعاون الإنتاجى ، وعمل بها حتى تم اعتقاله في أكتوبر 1966 لأسباب سياسية بتهمة اعتناق الفكر الاشتراكى المتطرف ، وبعد أن أطلق سراحه فى مارس 1967عمل سكرتيرا للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلى إلى عام 1969 .. وفى نفس العام أصدرالغيطانى أول كتاب له ،بعد مرور عامين من نكسة يونيو «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» . وقرر الغيطانى أن يتفرغ للكتابة ،وأن يدرس مايحتاج إليه بل والتحق بمعهد الموسيقى، ودرس العزف على آلة «القانون» ، التى بدأ حبه لها وعمره «14سنة حبا وتأثرا بنجيب محفوظ «. وتأثر بعدد من الكتاب والمفكرين، منهم يحيى حقي، والذي قال عنه إنه أعظم كتاب القرن العشرين، إضافة إلى نجيب محفوظ، وعبد الرحمن الخميس . عمل الغيطانى مراسلا صحفياً حربيا للأخبار على الجبهة فى حرب الإستنزاف واكتوبر، وبعد إنتهاء الحرب بعام انتقل للعمل في قسم التحقيقات الصحفية، ثم رئيسا للقسم الأدبي بأخبار اليوم ، وقام بتأسيس جريدة أخبار الأدب ، و شغل منصب رئيس تحريرها عام 1993 . مشوار العمر ل جمال الغيطانى الذى بلغ 70 عاماً بقى معجوناً بدم وعرق وتفاصيل وروح الشخصية المصرية ، عبر تاريخها. ولكن الغيطانى بقى يرفض القهر السياسى والاجتماعى الذى جسده فى كتابه «التجليات» الذى تضمن موضوعا فى فترة حكم السادات، وفى سنة 74 نشر قصة فى مجموعة «ذكر ما جرى»، والتى تخيل فيها أن مصر تباع فى مزاد علنى. نعم كانت «التجليات» خطوة جريئة، لأنه كما قال عنها «خرجت بها من التراث، وتوغلت فى الذات بدلا عن القضايا الكبيرة السياسية». ورغم ذلك يأتى توغل الغيطانى فى الذات ، نقطة فى بحر كتاباته ولغته ، التى احترفت لغة الحجارة، والعمارة ، والمعابد القديمة،وجاءت لغته السردية - كما يقول النقاد ورفاق مشواره - لتنبض من خلالها أحجار المعابد القديمة، وحوائط المساجد العريقة وجمالياتها وآذانها بل وقراءة القرآن الكريم بها ، وقد تحدث عن حلاوة المقدس وتجليه فى النص ، ورأى الرهبان فى الأديرة المصرية . .. لقد قرأ الغيطانى للروائى الروسى «دوستوفيسكى» وكان يتمنى أن يكتب مثله، ويرى أن هناك ثلاثة كتّاب عرب قامتهم تتشابه مع دستوفيسكى، هم نجيب محفوظ ويحيى حقى وتوفيق الحكيم فى بعض أعماله. ورغم ذلك جاءت لغة الغيطانى من مصادر متنوعة ، وعلى رأسها كتب الصوفية والمتصوفة وتجاربهم الروحية العميقة وهو لم يخف ولعه بشيخه «ابن إياس» وغيره من أعلام التأريخ والصوفية، حيث التقط من موسوعة ابن اياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور» شخصية بركات بن موسي التي بني عليها رائعته «الزيني بركات» . وهو يسعى طوال الوقت للمعرفة، ولا توجد ثقافة عنده تعادى الأخرى،فهو يولع بالفرعونى ، لكنه لايقف ضد العربية ، وعروبته لاتحرمه من الإطلاع عن الفارسية.. وفى الوقت نفسه اختار الغيطاني ، أن يكون له رأي وصوت خاص، فى الأدب ،والسياسة ،والشأن العام تم اعتقاله فى سجن طرة بتهمة اعتناقه الفكر الاشتراكى المتطرف، ونام على الأسفلت، وتناول الوجبات الثلاث من الفول، مع 7 زيتونات، وفى الصباح كان يسترد حارس الزنزانة بذر الزيتون لمنع اللعب، لكن المعتقلين تحايلوا على ذلك، وصنعوا الشطرنج من عجين الخبز، وقتها كان يغنى لزملائه أغنيات ليلى مراد! وهو يرى أنه لايوجد هناك كيان يسمى «الناصرية» لكن هناك مشاعر عامة، وعبدالناصر كان ضد فكرة الأحزاب، وهو لم يؤسس حزبا، لكنه ترك مشاعر لدى البسطاء. عندما قالت سناء البيسى : يا «جمال» ضمد جراح القلب المفتوح
فى رسالة مفتوحة إلى الأديب الكبير كان هذا ماكتبته الصحفية الكبيرة والمبدعة سناء البيسى بأناملها فقالت له وعنه فى رسالتها : ما من شيء في السفر يثير عنده الحنين مثل عبور القناطر والجسور خاصة تلك المحتفظة بطابع القدم والعتاقة، والجسر لدى الكاتب القدير النادر جمال الغيطانى يعنى همزة الوصل بين عالمين.. بين ضفتين.. بين حياتين.. الجسر لديه رمز للاستئناف.. واليوم يا جمال الأدب والكلمة والعبارة والرواية والفكر والأسفار والتفرد والسرد والأسلوب والإبداع والتجربة والنفاذ إلي الجوهر والإمعان في النظر إلى لب الأشياء، وصحبة المكان والجدران والنخل والنجمة والحجر وأشعار التصوف وحى الحسين والآفاق والرؤى والطقس اللغوى المتميز وعشق التفاصيل والتجليات ووقائع الزمان.. اليوم يا جمال ندعوك لعبور جسر الغياب والابتعاد والتنائى والترحال والخطر، لواقع الحضور والإفاقة واليقظة والصحو والصحة والمشاركة والحوار الشيق.. يا جمال ضمد جراح القلب المفتوح وافتح لنا نوافذ الآمال المورّقة وعد إلينا كما عودتنا.. عد إلينا بكامل أدواتك وأبعادك وحقائبك ومخطوطاتك فأسفار المشتاق قد طالت والجمع في انتظارك علي أرض المحطة علي أحر من الجمر، فشدة الإعجاب بك قائمة علي حالها، ودعوات الشفاء لك تسرى في أوصال قرائك نحن المصريين والعرب .
من أقواله عن كتابه «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» إقترضت 35 جنيهاً من يوسف القعيد، لأضعه على نفس المبلغ معى وأطبع روايته، فهذا الكتاب كتب شهادة ميلادى ككاتب، فقد كتب عني حينها لويس عوض، وعلي الراعي، ولطيفة الزيات، وكانت شهادة كل منهم ك»ختم النسر»، ومنذ ذلك الوقت لم أكف عن الكتابة.
قال عن الإخوان فى عهد الإخوان، ومنذ أقسم محمد مرسى اليمين أصبت بالإحباط، وكتبت مقالات تحت عنوان «وداعا مصر التى نعرفها»، كنت أكتب كتابات سياسية مباشرة، واعتبرت الإخوان أسوأ من أى احتلال أجنبى مرّ على مصر، وعلى العكس، أرى أن الاستعمار زاد من قوة الدولة، لأن المستعمر رصف الشوارع وبنى المدارس، ووضع نظاما تعليميا، لكن تحت حكم الإخوان أصبحت مصر لأول مرة منذ عهد الفراعنة هدفا للإسقاط، فهؤلاء الإخوان المتطرفون ينكرون الحضارة الفرعونية، ويزعمون أن تاريخ مصر يبدأ من القرن الرابع عشر أى منذ دخول العرب مصر، وهذا غير صحيح.
قال عن البرادعى كنت من أوائل الذين هاجموا محمد البرادعى، وكتبت عنه من واقع خبرتى وملاحظاتى على شخصيته مقال «هذا الرجل خطر على الوطن»، وكنت أعرف أن هذا الرجل جاء لمهمة ما
قال عن علاقته بنجيب محفوظ علاقتى بنجيب محفوظ لن تتكرر، ولكنه يختلف عنى فنيا ومشروع روايته مضاد لمشروعى.. إن نجيب محفوظ أسس الرواية العربية على أسس الرواية الغربية، لكنني عدت بها للبناء الأقدم فى اللغة والشكل، ولا أنتقده، لكننى أشيد به، فقد نجح، ولو لم يكتب محفوظ «الثلاثية» و»زقاق المدق» ما كنا كتبنا. قال عن عبد الناصر والسادات عبدالناصر أنشأ إذاعة القرآن الكريم، وكان يصلى فى الحسين، والرئيس السادات أحب أن يظهر بأنه الرئيس المؤمن، وعلى جبهته الزبيبة، ليثبت أن من قبله كان كافرا
قال عن : القراءة ورئيس مصر القراءة مهمة للغاية لأى رئيس يحكم مصر، فجمال عبدالناصر استلهم ثورة 1952 من رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وأهم الكتب التي يجب أن يقرأها من يحكم مصر هي «سندباد مصر» و«تكوين مصر» و«شخصية مصر» و«مصر ورسالتها».
قال عن : العلاقات المصرية -السورية يجب أن تعود العلاقات المصرية السورية دون تأخير، ليس مع النظام السورى، لكن مع سوريا بشكل عام، فالعقاب الواقع عليها الآن، بسبب انتقادات بشار الأسد لبعض الحكام العرب .. راجعوا كتب «نهاية الأندلس» و»تاريخ انتهاء ملوك الطوائف»، للاستفادة من التاريخ، والتأكد أنه لا يمكن التضحية بعلاقات قوية مع دولة مهمة فى الشرق الأوسط، بسبب بعض التصريحات.
قال عن ثقافة مصر مصر حالة ثقافية خاصة ، لم يستطع الإعلام او التعليم إظهارها إلى الآن فالأنظمة أهملت الثقافة ،رغم أنها التي حمت مصر، فمصر بها تماه بين الجميع ، على العكس من الدول العربية التي تقسم بها الأحياء وفق الديانات. قال عن مصر .. بين السنة والشيعة مصر إطارها سنى، لكن مضمونها شيعى، لذلك هى ستبقى حكما وليست طرفاً في النزاع السني الشيعي، لابد من الوعي بالتاريخ والوعى بالمضمون وخصوصية مصر.
هؤلاء قالوا عنه د. شاكر عبد الحميد : يستحق نوبل والتاريخ عنده ليس حياة الملوك الدكتور شاكر عبد الحميد الناقد ووزير الثقافة الأسبق قال عن الغيطانى : هو أحد الكتاب الكبار فى مصر والعالم العربى على مدار تاريخه ، وولعه بالتاريخ ميزه كثيراً ، لأنه صاحب رؤية مختلفة عن التاريخ ، فهو لايراه « الماضى» فقط ، فكل حاضر لديه هو تاريخ ، والتاريخ عنده الزمن ، وهو ليس حياة الملوك ، ولا القادة ، بل هو حياة البسطاء من الناس ، والتعبير عنهم ، سواء كان ذلك فى رواية ، أو قصة قصيرة ، أو مسرح ، أو غيرها وكما يقول الدكتور شاكر عبد الحميد : فإن الغيطانى يرى أن التاريخ المدون يقوم به الملوك ، وليس عامة الناس ، فمثلا تاريخ الهرم الأكبر يكتبه خوفو ، لكن ماذا عن الناس الذين قاموا بعملية البناء ؟! أما الغيطانى فهو يعبر عن عذابات الناس ، وآلامهم ، وهواجسهم ،وهو ليس مجرد كاتب ، بل صاحب رؤية وثقافة ، فهو عميق فى قراءاته المتنوعة ، ولم يترك شيئاً إلا وقرأ فيه . د. محمد أبوالفضل : يتحرك بضميره .. وثقافته عالمية و»الدراسات النقدية» لم تمنحه حقه الدكتور محمد أبوالفضل الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة يرى أن « جمال الغيطانى « قد نجح فى نقل الأدب العربى إلى أوروبا ، وأنه شخصياً لمس مدى عشق الأوروبيين لرواياته عندما حضر معه فى جامعة «بون» الألمانية إحدى محاضراته ، وكيف كان الطلاب والمستشرقون ، يناقشونه فى شخصيات رواياته مثل الزينى بركات ، و»التجليات « فى مناقشة علمية دقيقة ، وجاءت ردوده لتعبر عن ثقافته الواسعة والمتعددة . وأشارابو الفضل إلى أن الغيطانى لم يكن يتحدث عن نفسه فقط ، بل عن الأدب العربى بشكل عام ، وأدباء آخرين مثل نجيب محفوظ ويوسف ادريس ويوسف القعيد ، وعلى جعفر وغيرهم . ويضيف د. ابوالفضل : لقد قدم الغيطانى أدباً سردياً عالمياً ، وهذا هو سر كتاباته عندما تمت ترجمتها إلى اللغات غير العربية ، وهو ماجعل أحد المستشرقين الألمان يقول لى أن الغيطانى قد وصل فى حالة التأويل إلى عوالم لم يصل إليها أديب عربى آخر.