دهشة شديدة دفعته إلى أن ينتفض واقفا ليرى ماذا يحدث... هذا هو أبسط وصف لحال محمد على باشا والى مصر الكبير عندما رأى آلة ضرب الأرز التى اخترعها أحد المصريين أو «أولاد العرب» كما كان يطلق عليهم بعض الأتراك. لم يصدق عيناه رغم كونه حاكما على بر مصر لعشر سنوات قبل اختراع هذه الآلة، ورغم أنه عايش الكثير من الأحداث التى كادت تطيح بحلمه من مماليك وفقر وتكالب أطماع الدول فى حكم مصر، ولكنه أبدا لم يصدق أن المصريين يصلحون لشىء غير الزراعة، ونشر اللون الأخضر على طول مرمى البصر. حدثت هذه الواقعة منذ مائتى عام, بالتحديد فى عام 1815، بعدها قرر الوالى الكبير أن يفسح مكانا للمصريين الذين خلال زمن قصير كونوا ما أشبه بلائحة شرف مصرية. أما العالمون ببواطن الأمور فمنهم من يؤكد أن المسألة بدأت مع رغبة الباشا فى تأسيس جيش يضمن له حفظ كيان الدولة فى بر مصر. صدق حدس الرجل بعد عدة تجارب فاشلة مع غيرالمصريين، فكما يحكى المؤرخ الأمير عمر طوسون حفيد محمد على باشا «لعل المصريين من أكثر الناس صلاحية واستعدادا لكى يصيروا جنودا ممتازين، والدليل انه كان من بين الجنود الذين قاتلوا فى حمص جندى من فرسان الفرقة السابعة اسمه منصور بترت ذراعه، ولم يرض أن ينسحب من ميدان الحرب وظل يقاتل حتى استشهد.» «وفى حرب قونية بين مصر والدولة العثمانية بقيادة القائد الفذ إبراهيم باشا ابن الوالى محمد على خرج جميع الجرحى الذين لا تعوقهم جروحهم عن حمل السلاح وتركوا المستشفى دون إذن، وحين كان سليمان باشا الفرنساوى يستعرض إحدى الفرق وجد بين صفوفها شابا يبلغ السادسة عشرة نحيلا ضئيلا أعتبره «سقط الجند» ، إلا أن هذا الفتى هو من دافع عن فرقته بعد أن شُتتت طليعة الجيش فى عكا.» بالتأكيد كان محمد على فطنا لتأسيس كيان مصرى، ولهذا كان لابد من وجود مجموعة من المدارس التجهيزية والابتدائية، فتعليم العباد شغل الوالى الكبير، وسرعان ما قدم الإيطاليون أنفسهم كراغبين فى الدخول تحت العطف السامى لوالى مصر الكبير، ليتم إرسال أولى البعثات إلى إيطاليا عام 1809 ثم فى عام 1813. لم تنته القصة بهذه التفاصيل، كان لا يمكن أن يستحوذ الإيطاليون على كل ثقة الباشا، فمازالت أعين الفرنسيين تنظر إلى مصر بشغف شديد وقصصها حاضرة وحية فى الذاكرة الفرنسية منذ زمن حملتهم على مصر. كما أن وجود ضباط من الجيش الفرنسى فى خدمة الباشا من أمثال سليمان باشا الفرنساوى ومسيو دى سيرزى كان يسهل أمر ارسال بعثات مصرية إليها. وبالفعل كان عثمان نور الدين افندى التركى المتمصر فى طليعة البعثة العسكرية إلى فرنسا عام 1818، وعندما عاد أحضر معه بأمر الباشا الكثير من الكتب الفرنسية لترجمتها. بعدها أصبح نورالدين رئيسا للعمارة البحرية المصرية بدلا من محرم بك الذى كان زوجا لابنة محمد على لتفتح الأبواب أمام بعثات أخرى أهمها بعثة يوليه 1826 تحت الاشراف المباشر للمهندس الفرنسى جومار, الجغرافى والأثرى الذى حظى بثقة الباشا وكانت له تجربته المهمة, سواء فى اسهامه الكبير فى موسوعة «وصف مصر» التى وضعها علماء الحملة الفرنسية على مصر، أو فى تأسيس الجمعية الجغرافية بباريس, كما كان له دور فى منح المستكشفين الفرنسيين الجوائز عن رحلاتهم فى إفريقيا. وقد اختاره الباشا محمد على ليكون مشرفا على هذه البعثة إلى فرنسا التى ضمت حسب ما أورده الكاتب والمؤرخ سعيد الدمرداش- أربعين شابا مصريا وربما أكثر من مختلف التخصصات، والتي تفوق فيها ثمانية من المصريين من أصل سبعة عشر، بينما تفوق ستة عثمانيين متمصرين من أصل سبعة عشر. وكان الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى مؤسس مدرسة الألسن، ومحمد مظهر باشا مهندس القناطر الخيرية, الذى عين ناظرا لمدرسة الطوبجية أو المدفعية وبنى فنار الاسكندرية عند جزيرة رأس التين, كانا ضمن هذه البعثة، إلى جانب الفرسان الثلاثة: حسن الاسكندرانى «أسد البحار» الذى تمصر وأصبح من أشهر قادة الأسطول المصرى والذى لعب دورا كبيرا فى حرب القرم، ومصطفى مختار بك أول وزير مصرى للمعارف عام 1837، وعبدى شكرى باشا الذى كان من أبرز أفراد هذه البعثة. لكن هذا لا يعنى أن مصر كانت تقف ساكنة فى انتظار عودة هؤلاء لإصلاح المجتمع، فعدد التلاميذ فى المدارس قد وصل إلى 9000 تلميذ عام 1830، وفى عام 1832 سافر برفقة كلوت بك الفرنسى مؤسس مدرسة الطب 12 من تلامذته المصريين لاداء الامتحان فى باريس، وكانوا وبشهادة المؤرخ جورج يانج هم الآباء الحقيقيين لمدرسة الطب المصرى. وتضم لائحة الشرف المصرية كما أرى أسماء: أحمد الرشيدى وحسن الرشيدى ومحمد منصور، ومحمد الشافعى وعيسوى النحراوى ومصطفى السبكى ومحمد السكرى ومحمد الشباسى وأحمد بخيت وحسين الهياوى، وإبراهيم النبراوى الذى وصفه على باشا مبارك بأنه أنجب الجراحين، واستحق لقب رئيس الأطباء، كما كان وفيا لأستاذه كلوت بك فترجم كتابيه «نبذة فى الفلسفة الطبيعية» و«نبذة فى أصول الطبيعة والتشريح العام»، أيضاً الجراح الشهير محمد على البقلى أول مدير مصرى لمدرسة قصر العينى، ومؤلف كتاب «روضة النجاح الكبرى فى العمليات الجراحية الصغرى» و«غرر النجاح فى أعمال الجراح» و«غاية الفلاح فى فن الجراح» و«نشر الكلام فى جراحة الأقسام» ومؤسس مجلة «اليعسوب» الطبية الشهرية، والذي استمر فى العطاء منذ عودته من فرنسا وحتى وفاته في أثناء مهمة عمل مع الجيش المصرى فى شرق إفريقيا ليطلق أسمه على أحد شوارع شبرا الخيمة. وبعد ست سنوات من البعثة نقلت مدرسة الطب من أبى زعبل إلى القصر العينى وألحق بها قسما نسائيا تقوم السيدات والفتيات بالالتحاق به لرعاية الشئون والامراض الخاصة بالأم. لم تكن هذه البعثة, التى أعتبرها اليوم فاكهة مصرية ناضجة لما غرسه الكفاح والدأب, وحيدة زمانها. فسرعان ما أرسل الباشا دفعة أخرى بعدها بعامين إلى فرنسا، وفى العام التالى - كما جاء فى كتاب «محمد على وعصره» - أرسلت بعثة أكثر من 50 دارسا توزع أعضاؤها ما بين فرنساوانجلترا والنمسا. وكان من بين أعضاء البعثة المتوجهة إلى انجلترا محمد راغب الاستانبولى الذى درس الهندسة البحرية وبناء السفن, والذى حل هو وزميله محمد السعدان محل الفرنسى العبقرى سيرزى فى ترسانة الاسكندرية. وحتى فى أواخر زمن محمد على ورغم كل الأزمات خرجت بعثات جديدة أشهرها بعثة 1844 إلى باريس التى أطلق عليها اسم «بعثة الأنجال» لضمها بعضا من ابناء أسرة محمد على منهم الخديو إسماعيل، وهى بعثة نجحت فى تغيير مقاييس عملية النهضة لمصلحة مصر . فعندما يكون الحاكم الخديو إسماعيل والمحكوم المكافح على باشا مبارك مهندس النهضة المصرية من أنجب تلاميذها لابد أن تكون نتيجتها قفزة هائلة بمصر إلى الأمام لم يحققها قبلهما سوى الوالى محمد على باشا. يبدو أننا فى حاجة لقراءة تاريخ مصر، فهؤلاء الأبناء البررة غابوا عن الذاكرة الوطنية ولم يبق منهم سوى أسماء اختيرت لشوارع فى الزمالك وشبرا والإسكندرية. الناس تتذكر الشوارع وتنسى من أحبوا مصر واعتبروا مشاركتهم فى نهضتها فرصة لا تعوض، لذلك كان على أن ابحث عنهم فى كتب ومراجع التاريخ. فمبكرا هم فهموا أن مصر لا يمكن هزيمتها، وهى بكل المقاييس الحضارية والواقعية ناهضة وناظرة إلى الأمام، وقلبها لا يتوقف عن النبض . تجريف مصر لا يمكن أن يكون واقعا أو حقيقة فى يوم من الأيام، فحتى فى الزمن الذى سبق محمد على وعرف أحلك الظروف من جهل وإهمال وتفشى أمراض انخفضت بعدد سكان مصر إلى مليونى نسمة فقط، بعد أن كان تعدادها يصل فى زمن الفراعنة إلى ست أو سبع ملايين مصرى- أقول حتى فى ذلك الزمن الصعب «لم ينقل أهل مصر ثقافة الغرب إلى أرض جرداء», على حد وصف الكاتب بهاء طاهر حال البلاد فى «أبناء رفاعة». كان لدى المصريين دائما حس الانتقاء والفهم والتمييز بين الخبيث والطيب، وإلا كيف استطاع فلاح مصرى وفى غضون خمس وثلاثين عاما فقط فى زمن تألق حكم الوالى محمد على أن يحمل السلاح، ويهدد الدولة العثمانية وأوروبا كلها بجرأته وقدرته العسكرية؟ كما أشار المؤرخ الراحل د. رءوف عباس. مصر فى حقيقتها كيان متحضر شديد الرقى، وما كتبت ليس الا وصفا لملامح قصة مصرية عمرها مائتا عام، أحكيها اليوم لأقول إن محمود باشا الفلكى الذى حل لغز الأهرامات لم يكن أول الحكاية، فقد ذهب إلى فرنسا، وسبقته أول بعثة إلى الغرب بزمن يزيد علي الأربعين عاما . مشهد أخير نتوقف معه عند محمود باشا الفلكى وهو يتولى تقييم أعمال الشركة الفرنسية التى قامت ببناء كوبرى قصر النيل لمتابعة المتانة والأمان، ولم يكن وحده, فمعه مفتش عموم وترع الوجه البحرى, ومهندس شوارع مصر المحروسة كما تشير بعض المراجع تماما كما لم يكن وحده عند سفح الأهرامات ليحل لغزها. هؤلاء ليسوا شخصيات أسطورية من عالم الخيال هبطت على بر مصر المحروسة، ولكنهم مصريون من أولى الفضل. فهل تريد أن تكون واحدا منهم؟ .