كسرت الجولة الآسيوية للرئيس عبد الفتاح السيسى، حاجز الجليد الفاصل بين مصر وآسيا، تلك القارة المتجددة المبهرة التى انحصر اهتمامنا وانشغالنا بها، خلال العقود الماضية فى بند الأمنيات والأحلام الوردية بأن يُكرمنا الله بتحصيل جزء ولو يسير من تقدمها وتحضرها الباهر، وأحاديث لا تتوقف عن النماذج الآسيوية الجاهزة لاستنساخها والاستفادة منها. اكتفينا بالأمانى والأحلام دون أن يلحق بها ما يدعم ويؤكد اكتراثنا الحقيقى بآسيا، وبفتح قنوات اتصال وتعاون تسهم فى تدفق استثمارات يعتد بها، وبنقل تجاربها الناجحة فى المناحى المختلفة المساعدة على الازدهار وارتقاء سلم التقدم سريعا. لذلك نحن مطالبون بالبناء على ما انتهت إليه زيارة الرئيس السيسى من زخم، حتى لا نهدر فرصنا الواعدة مع آسيا مرة أخرى، خاصة أن الجولة فتحت أبوابًا كانت موصدة مع بلدان كسنغافورة وإندونيسيا، فالدولتان كانتا مهملتين من جهتنا على الرغم من الروابط التاريخية بيننا وبينهما فى الخمسينيات والستينتات من القرن الماضى، والآسيويون بطبعهم يختبرون على طول الخط قدر جدية من يقبل نحوهم، ويسعى إليهم، وعلينا اثبات أننا جادون ومستعدون لتطوير العلاقات معهم بما يخدم مصالحنا ومصالحهم، وأن لدينا ما نقدمه لهم اقتصاديا وسياسيا. فما هى خطتنا لتأكيد جديتنا تجاه اقبالنا على آسيا؟ خطوتنا التالية لابد أن نستهلها من تحديد ومتابعة آليات تنفيذ ما تم التوصل إليه من اتفاقيات ومذكرات تفاهم، وألا تكف الوفود المصرية عن الذهاب لآسيا، فلا يجب أن تصبح مثل هذه الزيارات موسمية وعلى فترات متباعدة، وجانب من مهام وفودنا دراسة كل كبيرة وصغيرة فى التجارب الآسيوية، لاختيار الصالح والأوفق منها لبلادنا. فقد تطرق كثيرون للنموذج السنغافورى من زوايا عديدة، غير أن الشق الأهم والأخطر فيه يتعلق بمدى التأثير السنغافورىعلى العملاق الصيني. فالجميع ربما لا يخطر على باله أن الصين حينما شقت طريقها صوب التقدم والاصلاح اتخذت من سنغافورة مرشدا وملهما، فالزعيم الاصلاحى الصيني « دينج شياو بينج « زار فى نوفمبر 1978 ثلاث دول آسيوية مجاورة هى تايلاند وماليزيا وسنغافورة، وعندما تابع وشاهد ما حققته سنغافورة آنذاك من نهضة وتحديث قرر الاحتذاء بتجربتها من شدة افتتانه بتفاصيلها الدقيقة وبما أنجزته على أرض الواقع. دينج ترجم اعجابه الشديد بارسال نحو 400 وفد رسمى لهذه الجزيرة الصغيرة خلال عام قاموا فيه بمسح شامل لما تفعله من الألف إلى الياء، وانتقاء المناسب والملائم للتنين الصينى لدرجة أن البعض يعتبر « لى كوان يو « مؤسس سنغافورة الحديثة هو قائد المسيرة الاصلاحية الصينية، بل إن كوان - اصوله صينية - نفسه زار الأراضى الصينية 33 مرة ابتداء من 1976، حتى أن الصينيين اطلقوا عليه اسم الصديق القديم للشعب الصينى. ومن بين الجوانب الجاذبة والمؤثرة فى النموذج السنغافورى الحرص الفائق على اسناد المناصب لأصحاب الجدارة والكفاءة، والمرونة والعملية فى التعامل مع السياسات الموضوعة، وتكافؤ الفرص، والجانب الأخير يحتاج لعناية وتدقيق من جهتنا، وهو ما لا ينتبه له بعض مسئولينا الذين يتخذون قرارات غير مدروسة من شأنها الايحاء بتكريس التمييز داخل المجتمع، مثل قصر الالتحاق بكليات معينة على توزيع جغرافى محدد، أو منح استثناءات لفئات بعينها، فتلك القرارات غير الموفقة يتولد عنها فئة « الناقمين على المجتمع» الذين يكونون نهبا ولقمة سائغة لجماعات الإرهاب والتطرف، والجهات العاملة ضد مصر وتسعى جاهدة لالحاق الأذى بها بأيدى أبنائها، وسيجدون ضالتهم المنشودة فى هذه الفئة الحانقة والغاضبة من حرمانها من حقها الطبيعى فى مبدأ تكافؤ الفرص. وكم أتمنى وألح فى الرجاء أن يكون للصغار فى آسيا نصيبهم من اهتمامنا، فلا شك أن الصين، وإندونيسيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة تستحق الزيارة تلو الأخرى، لكن لا ننسى الهند، وتايلاند وفيتنام، والفلبين، فالدول السابقة مالكة لتجارب تنموية جيدة للغاية، ولننظر إلى تكالب الشركات العالمية على نقل خطوط انتاجها لفيتنام التى وفرت بيئة صالحة خصبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويرى المحللون والخبراء فى الشئون الآسيوية أن بلدا كفيتنام ينافس الصين الآن بقوة بقدرته على جذب المستثمرين الأجانب، ومنحهم حوافز وتسهيلات متعددة تجعلهم يحسمون قرارهم بضخ أموالهم فيها. وإن كان وقت الرئيس السيسى لا يسعفه لزيارتها فإن الوفود الرسمية وغير الرسمية عليها تعويض غيابنا عنها، ومد جسور التفاهم والحوار معها، ومجددا أشدد على ضرورة الا نقطع زيارات وفودنا عن القارة الآسيوية القاطن بها 56٪ من سكان العالم، وبها عدة قوى اقتصادية محركة للاقتصاد العالمى، وإذا تألمت تألمت البشرية معها. والدور المرتقب ليس منوطا بالحكومة وحدها، فمراكزنا البحثية، وجامعاتنا، ووسائل إعلامنا، ومنظماتنا المدنية تستطيع المشاركة فى عملية إعادة اكتشاف آسيا من أجل بناء مصر الجديدة، واحدي المسائل الممكن أن نعمل عليها يتصل بمهارات إعداد القيادات الآسيوية، فتركيزنا كله يتجه معظم الأحيان لأمريكا وأوروبا على الرغم من أن آسيا بها حصيلة وفيرة من النماذج القيادية، وصناع القرار الذين قادوا تحولات بنيوية معقدة. إن فرصتنا ومصلحتنا فى إعادة اكتشاف آسيا كبيرة وتستحق منا المحاولة. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي