جمال الغيطانى واحد من القلة القليلة التى أسهمت فى تأسيس كتابة الستينيات بإنجازها العظيم الذى جعلها تجسيدا خلاقا لأهم حركة أدبية فى العصر الحديث للأدب العربي. وتنطوى هذه الكتابة على عدة تيارات، من أهمها التيار الذى سعى نحو تأسيس أصالة ذات جذور تراثية رغم ما تنطوى عليه من ملامح حداثية. وبقدر ما سعى حسب الشيخ جعفر فى العراق إلى صياغة هذه الأصالة من خلال القصيدة المدورة عروضيا ودلاليا، وأمل دنقل من خلال الأقنعة التراثية، كان جمال الغيطانى يمضى فى الطريق الذى استهله نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا»، معارضا السرديات الرمزية فى التراث الفلسفي، عثر جمال الغيطانى على المادة الخام لأسلوب إبداعه الأصيل فى السرديات التاريخية للعصر المملوكي، وهو العصر الذى تفتحت عينا الغيطانى على آثاره من مساجد وقصور وأسبلة وطرقات وبوابات ومنازل، وشدته لغة مؤرخيه شابا، فحاول أن يخلق منها صياغات لغوية جديدة، أشبه بمرايا سحرية تعكس صورا للماضى المملوكى والحاضر الناصرى الساداتى فى الوقت نفسه. وكانت البداية «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» المجموعة القصصية التى صدرت سنة 1969، فأصبحت علامة وبداية فى آن. بداية لتيار جديد فى الكتابة اكتملت ملامحه مع «الزينى بركات» سنة 1974، و« وقائع حارة الزعفراني» 1976، و«خطط الغيطاني» 1980، و«إتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان» 1985... ولم يكن من المصادفة أن تمتزج كتابة الغيطانى التى وجدت جذورها فى السرد التاريخى المملوكى باللغة الصوفية الموروثة عن أمثال ذى النون المصرى من القرن الثالث للهجرة إلى ابن عربى الذى يصل ما بين القرنين السابع والثامن الهجريين، فتتتابع أجزاء التجليات ما بين عامى 1983-1987. ولا أرى غرابة فى أن أرد بعض دوافع الغيطانى فى البحث عن هوية إبداعية تحقق صبغة الأصالة المعاصرة إلى قراءة « السائرون نياما» لسعد مكاوى 1963 التى أسهمت فى فتح أفق العالم المملوكى فى موازياته الرمزية وإمكانات استلهاماته السردية، لكن الغيطانى لم يكن يريد ذلك وحده، كما قلت من قبل، وإنما كان أكثر طموحا، فقد كان يريد من موضوعه الذى يحكيه أن يكون ذاتا تحكى فى الوقت نفسه، وتحويل السرد المملوكى إلى سارد يتقمص الزمن المملوكى وينطق بصوته، محاكيا لغة وأسلوب أهم مؤرخيه، وذلك فى تركيب إبداعى جديد، يغدو فيه الماضى موازيا للحاضر ومرآة له، والحاضر إرهاصا بالمستقبل، الأمر الذى يتيح للكاتب والقارئ مساءلة موضوع السرد من زوايا ثلاث للزمن، الزوايا التى تكمل مخايلة القارئ بما يجعله مضمرا فى السرد، قابلا لأن يكون مرويا عليه فى أى من الأزمنة الثلاثة. هكذا بعث الغيطاني، مؤرخى الزمن المملوكي، واستعادهم بنوع تخييلى من آلة زمن الكتابة، فتحدث المؤرخون القدماء كما لو كانوا إياه، وتحدث هو كما لو كان إياهم، مؤلفا مضمرا ومعلنا على السواء. ولذلك انداحت المسافة الزمانية والموضوعية بينه وبينهم تخييلا وتخيلا، فأصبح من حقه أن يتلاعب بنصوصهم التى أصبحت نصوصه، ولم يعد الأمر فى البناء أمر إدماج أو تضمين أو اقتباس، كما توهم البعض، وإنما أمر تفاعلات نصية فى مدى متجاوب المكونات، أو سرد يدنى بالفاعلين فيه وله إلى حال من الاتحاد. هكذا صنع الغيطانى على عينه إبداعه الخاص الذى مايز بينه وأبناء جيله كلهم، بل أبناء الأجيال السابقة عليه بما فيهم أستاذه نجيب محفوظ، فجمال مبدع من النوع الذى لا يعيش فى جلباب أبيه. ومن هذا المنظور، تشكلت لغة الغيطانى السردية فى علاقتها بالعناصر البنائية. استهلالية وخاتمة، توجد أو تحذف أو تضمر، هى نوع من التخييل أو التغريب (بالمعنى الشكلاني) بوجود المسرود فى مخطوط، يتيح للباحثين معرفة بعض ما كان يجرى فى مصر خلال الأزمان البعيدة. وكان ذلك بواسطة حيل استخدام أساليب الدعاء التى تفتح السرد القديم، ولوازم الإنشاء التى لا تخلو من الصلوات والتسليم على أشرف المرسلين، والدعاء بالغفران للكاتب، الراوي، المؤلف المضمر والمسكوكات اللغوية من التراكيب اللفظية التى لا يتقنها سواه، فهى لغة البصائر فى أهل المصائر. وأضف إلى ذلك الوقف بين الفقرات واستخدام الدعاء: «رب يسر وأعن». والتشبيهات التى هدفها إيقاع التطابق بين المتشابهين، والوصف الذى تتحول به الطبيعة إلى مرايا الشخوص والأحداث فى تجاوبات المكان والزمان، والشخصيات القديمة المنتسبة إلى العصر المملوكي، كأنها مملوكية من حيث هى دال، معاصرة من حيث هى مدلول، فى بناء سردى ينطوى على تتابعات العتمة والتحول والمفارقة. وأخيرا، الاستطراد بذكر المُلَح والنوادر، فضلا عن كثرة أساليب الإنشاء التى توازى كثرة المحسنات البديعية التى يناسب بها المقال المقام. وكان الأهم فى ذلك كله، عند الغيطاني، ولا يزال، تأصيل قالب روائى ينتسب إلى تراثه وهويته الثقافية، وذلك على نحو ما فعل أستاذه نجيب محفوظ فى الطريقة التى كتب بها «أولاد حارتنا» سنة 1959. وأعتقد أن هذا هو السر، ولا يزال، فى حسن استقبال روايات الغيطانى المترجمة إلى العديد من اللغات الأجنبية، فهى ليست بضاعتهم رُدّت إليهم، وإنما إبداع متميز بطزاجته وتفرده وأصالته. ولذلك ظل القارئ الأوروبي، يرى فى هذه الأعمال تميزا يرجع إلى أنها سردية مصوغة فى أشكال وشخصيات ولغة خاصة بثقافتها وحضارتها التى يعثر الكاتب فيها، دائما، فى قرارة القرار على الجذر الأصيل الذى يتجسد به القاسم المشترك الخلاق بين البشر. ولا يكفى فى تحديد تمييز إنجاز الغيطانى القول عنه إنه كاتب غاص فى أخص الخاص من واقعه فى كل مجال، حتى وصل إلى الجذر الإنسانى الذى جعله كاتبا عالميا بكل معنى الكلمة، وإنما أضيف إلى ذلك تعدد المجال من ناحية، والتجريب من ناحية ثانية، ومتابعة إن لم يكن منافسة- الكتابة العالمية فى مجاله الإبداعى النوعى من ناحية أخيرة. لقد حافظ على الصيغ القرائية التى ساعدته على تحقيق التغريب بالمعنى الذى قصد إليه الشكليون الروس، ومزج بين تجليات حضور أبيه البيولوى وعبد الناصر أبيه الروحى بلغة الرؤى الصوفية فى التجليات. وانتقل إلى اللغة اليومية فى سرديات «أرض..أرض»، وفى «الرفاعي»، هذه الرواية التى تصوغ تمثالا خالدا من الكلمات للشهيد إبراهيم الرفاعى الذى استشهد وهو يقود جنوده فى حرب الاستنزاف، وأفاد كل الإفادة من التقارير التى كان يكتبها ويطالعها حين كان مراسلا عسكريا، فكتب عن الأبطال المعروفين مثل الرفاعى وعن غير المعروفين مثل «الغريب». وأضف إلى هذا التنوع جرأة وعمق وصدق العودة إلى الميراث الأدبى الفرعونى والإفادة من بردياته ونقش حجاراته فى تنوع آفاق عوالمه التى وصلت إلى ذرى إبداعية لم تصل إليها، هذا، جنبا إلى جنب استبطان النفس فى محنة جراحتى القلب اللتين مر بهما. وقبل ذلك وصول وعيه التجريبى إلى أفق ما بعد الحداثة فى روايته الفاتنة «المؤسسة» التى لم تأخذ حقها النقدى بعد. وكان جمال فى كل أحواله مبدعا أصيلا ومعاصرا وأمينا مع نفسه. حفر بأظافره فى أحجار الآداب العالمية حتى دنت منه كما دنا منها، فتدلى إنجازه دالا بخصوصيته فى شبكة الكتابة العالمية. ولذلك أصبح إنتاجه الغزير (نحو خمسين عملا إبداعيا) من أهم مفاخر الكتابة العربية التى وصلت إلى ذرى إبداعية لم تصل إليها من قبل، وذلك بفضل إبداع الغيطانى وعدد أقل من أصابع اليد الواحدة من كتاب الستينيات. حفظ الله جمال وأعاده سالما إلى أسرته وعالمه الإبداعى الذى نفخر به نحن أبناء الجيل الذى ينتسب إليه. لمزيد من مقالات جابر عصفور