يستطيع الإنسان ان يتخلص بسهولة من ملابسه القديمة، ومن حقه أحيانا تغيير اسمه بل وقد ينجح ربما في تغيير شكله إلى أقصى حد بفعل عمليات التجميل التي وصلت لحدود لا معقولة، لكنه لا يستطيع ابدا تغيير التجارب التي مر بها، وقل لا يستطيع تغيير هواجسه مهما حاول التحرر منها. وتعتبر الأفلام السينمائية من أكثر أدوات العصر تحفيزا للذاكرة. وبفعل التطور الكبير في عالم المؤثرات البصرية المعروف باسم الجرافيك، تنجح الأفلام في أن تجسد ما يعتمل في النفس البشرية من تماوجات وتناقضات وإلحاحات مضنية. تسمح السينما بتجسيد الهواجس سواء كانت نابعة من الاعماق السحيقة للنفس، أو بفعل المؤثرات السياسية والاجتماعية. وطالما كانت المهرجانات السينمائية الدولية ساحة لاكتشاف هواجس سينمائيي العالم وتحليل ما يؤرقهم ويبذلون من أجله عدة سنوات من العمل المضنى لصنع فيلم عنه. ومهرجان مونتريال لأفلام العالم الذي يقام هذه الايام ويحتفل بدورته التاسعة والثلاثين يحفل بالعديد من الأفلام التى تحاور الماضي القريب وتستكنه ما أحدثه فى حياة اليوم. ومن أحلي الأفلام التى استخدمت ذلك بالمهرجان الكندي الفيلم البلغاري: ملف بتروف، الذي يحكي عن ممثل شهير يحمل الفيلم اسمه منعته السلطات هناك من ان يعتلي خشبة المسرح في بداية الثمانينيات. وما ان سقطت الشيوعية حتى خرج بتروف من الجحر المفروض عليه وذهب ليحضر مراسم دفن استاذه وصديقه في ذات الوقت؛ ليكتشف في ذات اليوم ان هذا الرجل هو الذى ابلغ عنه وألب عليه السلطات لحصاره.لم يجد صاحبنا بدا من الرجوع للكهف مرة اخري، لكن من اعاده تلك المرة هو رئيس سابق للاستخبارات البلغارية. عرض عليه الرجل المساعدة واقنعه ان البلد يتغير بقوة عام 1995 نحو الرأسمالية، مما سيستلزم وجود لاعبين جدد ربما قد يكونون اقدماء. رجل الاستخبارات الذي أصبح رجل أعمال عرض على الممثل المخضرم ان يصبح رئيس حزب جديد؛ باعتبار انه دور جديد يلعبه في الحياة ويعيده الى الحياة. نظرة مليئة بالألم والسخرية لبلاد لم تستطع بعد ان تستوعب تقلبات السياسة بالقرن العشرين، وفنانون يستعيدون كل مرة اسباب المرض ربما يستطيعون أن يفتحوا له بابا للعلاج. وليس بعيدا عن هذه الفترة يتميز الفيلم السويدى جون هرون الذي يقدم قصة جماعات النازية الجديدة التى انتشرت هناك في منتصف التسعينات. استيقظ البلد الاسكندنافى ليجد عددا مفاجئا من شبابه قد التحق بهذه الجماعات العنصرية الملعونة التى لا تعرف سوى العنف والدم والتطرف في أسوأ صوره. ونحن هنا نتابع أحد اصدقاء جون الذي يحمل الفيلم اسمه في رحلته نحو الانحدار. كيف أمسي وكيف اصبح، وكيف فقد كل شىء جميل بحياته. يلتحق صديق جون بجماعة «نازيون جدد» فيتصدى لهم الاخير ويواجههم بشجاعة نادرة تلفت نظر المجتمع السويدى بأكمله، حيث ان الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية. وبعد عقدين من الزمان، مازالت ذكرى جون هرون تخلب الالباب كرمز قومي تصدى لابناء بلده الذين تطرفوا. وشاهدت ايضا في نفس الاطار فيلم: ايزنشتاين في جوانا خواته للبريطانى المخضرم بيتر جرينواى. وايزنشتاين هذا الذى يحمل الفيلم اسمه هو واحد من اهم المخرجين الكبار في تاريخ السينما العالمية.و من اشهر افلامه المدرعة بوتومكين وايفان الرهيب التى تعتبر رموزا بكل ما بالكلمة من تقليدية واحكام، ودائما مقررة على اى طالب سينما بأى معهد لتعليم فن الأفلام بالعالم. يقدم فيلم جرينواى رحلة ايزنشتاين الى المكسيك لمحاولة صنع فيلم هناك بعدما فشل في اختراق هوليوود و مقاومته الضغوط لعودته لروسيا ستالين عام 1931 زمن الاحداث. تحمله رغبته الى البحث عن معنى الحياة والموت من خلال الجنس، من خلال رمزية الشهيرين ايتوس وثاناتوس، ليكتشف ان كلا منهما مرتبط بالاخر.الفيلم اجمالا هو رحلة عشرة ايام داخل عقل وروح ذات عبقرية استثنائية تتألم وتحاول البحث عن خلاص من مخاوفها المرتبطة بالمشاعر الحسية والخوف من المجهول. ثمة سينمائى كبير اخر عاد للماضى بمهرجان مونتريال ليحكي اثره عليه وعلى عصره. عن الايطالى الكبير ايرمانو اولمي اتحدث وعن فيلمه: سيعود اللون الاخضر مجددا. يستند الفيلم على رواية فيديريكو دي روبرتو المسماة (خوف) التى اهداها لوالده الذي كان يحكي له حكايات عن الحرب العالمية الاولي علي الجبهة الايطالية حيث تدور احداث الفيلم عام 1917. فيلمنا مقنع من جماله ومن جهامته حيث ان اغلبه مصور بالابيض الاسود الحاد. لكن احيانا الالوان تتسلل به وتحديدا اللون الاخضر، خاصة في اللحظات الانسانية الاسرة التى تكون بين البوسطجى الايطالى الذي يغني للجنود الالمان حول راكية النار. لكن اغلب مشاهد الفيلم تدور حول مشاعر الألم بسبب الوحدة و المرض والقتل اثناء الحرب وبسببها. تعبر شخصيات الفيلم احيانا عن آلامها بسبب بعدها عن احبائها وموطنها حيث تم اقتيادهم لمعركة خارج ارضهم ليست لهم فيها لا ناقة ولا جمل. فيلم اولمي موجع حقا ويبدو ككتالوج للالم والياس وتجميد للحظة انحدار فى الوعى الجمعى الاوروبي عامة والايطالى خصوصا. وربما كان هذا الفيلم هو من اهم الهدايا التى قدمها سينمائى للعالم في ذكرى الاحتفال بمرور مائة عام على الحرب العالمية الاولي. هدية مؤلمة حقا لكنها كالدواء مفيدة وبطعمها المرار. هكذا هى الأفلام العظيمة، وثائق تتحدي النسيان لتكون احيانا مخالب تدب بحوافرها فى اورام النفس الكامنة او لمسات حانية تداعب وتر الروح لتذكره أن لا يمكن انه ينسي الإنسان بسهولة اى تجربة هامة مر بها. [email protected]