يتردد مصطلح الشَّخْصنة فى العديد من المقاربات السياسية وإن كان الإعلام الفضائى قد أفرط فى استخدامه بمعزل عن دلالاته، و كأن هناك فاصلاً حاسماً بين الشخصنة و المفاهيم المجردة، و مقابل هذا الإفراط الفضائى فى تعويم المصطلحات ثمة إفراط آخر يمارسه المدافعون عن التجريد، والكلام المرسل، حيث تبقى الكتابة فى نطاق عام، يقول كل شيء كى لا يقول شيئا محدداً، فهذا بحد ذاته احتراز من التشخيص وإعفاء للذات بهدف تبرئتها من أى تأويل و الأمثلة فى هذا السياق عديدة، تبدأ من إطلاق مصطلح النظام السياسى العربى ولا تنتهى عند مفهوم الآخر، و كأن النظام العربى متجانس، ويخضع لاستراتيجية واحدة، والحقيقة أنه ليس كذلك، ففى النظم السياسية العربية التى كرست اختلافاتها سبعة عقود على الأقل، بدءاً من الاستقلال بمختلف صيغه، فما يسمى الناراتيف أو السردية الوطنية للاستقلال يختلف جذريا من بلد الى آخر، و كأن لهذا الاختلاف تجلياته الثقافية و الاجتماعية والاقتصادية، فهناك من دفع ثمن استقلاله دماً وشقاء و حصاراً اقتصاديا مقابل من نال الاستقلال و كأنه منحة، رغم أن السياسة لا تقبل الأُعْطيات والهبات بالمجان، لهذا يقول مثل انجليزى «ما من وجبة عشاء بلا مقابل»! ومن المدهش أن معظم من ذرفوا الدموع على إخفاق المشاريع الوحدوية وبكوا على أطلال الجامعة العربية لم يهتموا بهذا الأمر وكأن العالم العربى استقل عن مستعمريه فى ظهيرة واحدة وتحت علم واحد وضبط خطواته السياسية على إيقاع نشيد واحد! إن الإفراط فى الشخصنة يحرمنا من التعامل مع الأفكار و المفاهيم، وهى الأشمل و الأدق فى تحليل الظواهر سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى سيكولوجية. وبإمكان أى باحث عربى أن يجرى اختباراً فى هذا المجال، فإن كان أكاديمياً بمقدوره أن يرصد إقبال الطلاب على الكتابة السّردية خصوصاً اذا كانت تتعلق بسيرة ذاتية أو رواية وقائع منسوبة لأشخاص محدّدين، لكنهم لا يقبلون بالدرجة ذاتها على قراءة مفاهيم و أفكار ذات قابلية للسجال وهذا أيضا ما يفسر كون الكتب المتعلقة بالسيرة الذاتية أو الفضائح الأكثر مبيعا لأنها تستجيب لثقافة النميمة التى فاضت عن حدودها الاجتماعية فى الحياة اليومية لتشمل السياسة و شجونها ! وهناك جذر علمى لهذه الظاهرة تنبه اليه علماء النفس التربوى وعلماء الاجتماع أيضا يتلخص فى أن الإنسان فى مراحل النمو المبكرة يميل الى التعميم و تكثر لديه القواسم المشتركة حتى عندما يرسم أو يتخيل ، فالإنسان بالنسبة لطفل يرسم مجرد خطين متقاطعين وأشبه بالصليب و المثال الآخر المتعلق بمفهوم «الآخر» يعانى من عدة التباسات، فالآخرون ليسوا متجانسين، لأن الشقيق آخر وكذلك الجار والصديق والأعداء أيضا آخرون، وحين تداول المثقفون العرب مقولة سارتر الشهيرة «الجحيم هو الآخرون» أخضعوها أيضا لثقافة النميمة والشخصنة لأن الآخر يصبح نعيماً أو جحيماً تبعا لموقفه من الذات و مدى ملاءمته لمصالحها. وأذكر أن شاعرا عربياً ماركسيا تبنى الدفاع عن الفقراء حتى تحول الى ناطق رسمى باسمهم استخدم عبارة سارتر تلك فى احدى قصائده، وغاب عنه أن الفقراء الذين يدافع عنهم هم أيضا آخرون! إن تحرير العقل من فائض الشخصنة يتطلب تأهيلاً و مرانا إضافة الى المعرفة وهذا ما نفتقده فى مدارسنا وبعض جامعاتنا لأن السّائد بل المقرر هو تحول المتلقى الى ببغاء يردد صدى ما يسمع بمعزل تام عن معانيه و دلالاته. ومن تداعيات الخلط و التشويش بين الشخصنة والمفهوم المجرد،التعامل مع الدولة باعتبارها مرادفا للنظام و كأنهما دائرتان بمحيط واحد ومركز واحد. والحقيقة غير ذلك تماماً، فثمة نظم تتساقط لكن الدولة تبقى، ومن نتائج هذا الخلط أيضا نسبة نظام سياسى برمته إلى زعيم أو شخص بعينه، بينما هناك أمثلة عديدة عن قادة أسقطوا أو تم اغتيالهم أو رحلوا لكن النظام لم يدفن معهم. لأنه نسيج من العلاقات بالغة التعقيد و ثمة مصالح تنوب عن الشخص فى جذب أنصار النظام، لأنه مجرد اسم حركى أو مستعار لفئة أو طبقة سياسية، وحين نسمع عبارة خرقاء من طراز «هات من الآخر» والتى يعبر فيها المستمع عن ضجره وضيقه من الحوار المفاهيمى فسبب ذلك ببساطة هو القفز الى الشَّخصنة وهذا بحد ذاته من إفرازات ثقافة موروثة بغثها أما سمينها فهو فى مكان آخر. وقد ساهم الإعلام الفضائى ووسائل التواصل الاجتماعى فى تغذية الشَّخْصنة التى تمددت على حساب المفاهيم والأفكار المجردة، وهذا ما يفسر لنا إلحاح بعض مقدمى البرامج الحوارية على ضيوفهم بأن يذكروا أسماء آخرين مما يجعل المشهد مزيجا أشبه بالتراجيكوميديا بين المحقق الجنائى وبين الواشى أو من يسعى الى إشعال فتيل الفتنة بحثا عن الإثارة وتسويق النّميمة باعتبارها سلعة مطلوبة. والمثال الأخير فى هذه العجالة الذى تتجسد فيه الشخصنة بكل ما يصاحبها من إسقاطات نفسية وتفكير رغائبى هو مصطلح الكاريزما، الذى أصبح يطلق جزافا على أصحاب مهن وشخصيات عامة منهم رجال أعمال أو اعلام . وعناصر الكاريزما تبعا لهذا الاستخدام السطحى غالبا ما تنحو باتجاه جسدي، رغم أنها قد تكون ذهنية و أقرب الى الكيمياء العصية على التفكيك . إنها صفة مرتهنة لنموذج فى الذاكرة يقاس عليه، وهى اذ تحذف عناصر ومكونات غير عضوية تصبح مفهوماً، يحتاج الى شخصنة. كى تنسجم مع السّائد السطحي. ولو قام باحثون برصد تجليات وتداعيات الخلط بين الشخصنة والمفاهمية لربما فاجأتهم النتائج، سواء تعلقت بأسئلة خاطئة تحتاج الى إعادة صياغة حسب ما قال لوى التوسير أو بتضليل الرأى العام والعبث ببوصلته الوطنية و الأخلاقية، والشخصنة بمعناها الدقيق حذف لأبعاد اخرى فى أى مسألة مطروحة للحوار، لأنها فرار متعمد من المفاهيم والمطارحات الجذرية وتعامل سطحى مع الجزء الناتىء من جبل الجليد، حيث يصبح ارتطام السفينة محتما فى غياب الرؤية البانورامية لأى قبطان! لمزيد من مقالات خيرى منصور