فى عام 1979، صدرت «يوميات موشى شاريت» باللغة العبرية، وقاومت إسرائيل بكافة الوسائل ترجمة هذا الكتاب باللغة الإنجليزية، لدرجة أنها دفعت أسرة شاريت لمقاضاة الذين حاولوا ذلك، وقامت بحصار الكتاب لمنع تسربه بكافة الوسائل والطرق . وموشى شاريت كان أول وزير لخارجية إسرائيل فى الفترة من 1948 إلى 1956، كما تولى منصب رئيس الوزراء عندما اعتكف بن جوريون فى صحراء النقب فى الفترة من 1954 إلى 1955 . تبدأ اليوميات فى 9 أكتوبر 1953فى الفترة التى كان بن جوريون قد أعلن عن نيته الاعتزال بحيث أصبح المرشح لخلافته هو موشى شاريت، وقد توجه بن جوريون للعيش فى صحراء النقب بما بدا حينذاك وكأنه خلوة روحانية، كدافع للآخرين لمواصلة النشاط الاستيطاني، والحقيقة أنه بينما كانت الدولة تنفق بسخاء لإعداد كوخ له فى النقب، بكل ما يتطلبه من وسائل اتصال وأمن وخلافه، فإن الرجل كان يعرف، بل وقال لبعض معاونيه، إنه سيعود بعد عامين من هذه (الخلوة)، فقد كانت هناك حملة تم إعدادها بمهارة لاستغلال هذه الخطوة معنوياً. كان السعى الحثيث للقيادات الإسرائيلية يأخذ اتجاه تأمين الدعم الاقتصادى والعسكرى من الغرب، وفى الوقت نفسه منع أى تقارب بين العرب والغرب بأية وسيلة ممكنة، ومن ضمن أهم الوسائل هو إثبات أن إسرائيل أفضل رهان عسكرى للغرب فى المنطقة، دون إثارة أى شبهات حول نوايا إسرائيل التوسعية فى ذلك الوقت، حيث لم يكن قد تم التمهيد الكافى لذلك بعد. ومن هنا كان اعتزال بن جوريون (المتطرف)، وإستبداله بشاريت (المعتدل)، كإشارة لعدم اتجاه إسرائيل إلى الحرب، وقد حقق ذلك على المدى القصير هدفه من عرقلة سعى الدول العربية للحصول على الأسلحة. وأهمية ما جاء فى اليوميات، أنها تقدم صورة حقيقية لإسرائيل فى بداية نشأتها، وهى تختلف كثيراً عن تلك الصورة التى حاولت تقديمها للعالم، بل نجحت فى تسويقها بوصفها دولة صغيرة مكسورة الجناح يتحوطها وحوش كاسرة تتحفز لإفتراسها. لقد كانت صرخة (أمن إسرائيل) تشبه صرخة (الذئب..الذئب)، التى طالما ترددت على مدى سنوات وجود هذه الدولة، وما زالت تصرخها حتى الآن، ولكن ما يفضحه لنا شاريت فى يومياته، يؤكد أكذوبة هذه الصرخة فى الماضى والحاضر، ويقوض بشكل حاسم ذلك الإدعاء الإسرائيلى الذى وجد للأسف من يرددونه حتى فى المنطقة العربية. تحت هذا المفهوم المخادع لأمن إسرائيل، انتهكت إسرائيل أمن كل دولة مجاورة، بل بررت بعض التصرفات غير الإنسانية وغير الأخلاقية تجاه دول وشعوب تلك المنطقة، وقد وجدت آذاناً صاغية وألسنة حاضرة تدافع عن انتهاكاتها للقانون الدولى وحقوق الإنسان بحجة (أمن اسرائيل)، ومازالت نفس الحجة تقدم بجرأة غريبة على موائد المفاوضات مع الدول العربية التى تسعى إلى تحقيق السلام والإستقرار، بل تسعى إلى تحقيق (الأمن) الذى انتهكته إسرائيل مرات ومرات متعمدة كى تحقق أهدافها التوسعية فى المنطقة كما شرح ذلك بوضوح أول وزراء خارجيتها (موشى شاريت) فى مذكراته التى لم يكن يقدر أنها ستنشر ذات يوم . إن سياسة إسرائيل خلال الفترة التى تغطيها يوميات شاريت ، كانت تهدف بشكل أساسى إلى القيام بأعمال تعرضية لإثارة جيرانها العرب لضمان إستمرار حالة العداء والتوتر بما يوفر لها المبرر اللازم لعمل عسكرى مسلح تحصل به على مزيد من الأراضى ،وقد أطلق شاريت على هذه السياسة إسم «الإرهاب المقدس» Sacred Terrorism ، وأوضح بشكل جلى أسطورة (إحتياجات إسرائيل الأمنية) وما يسمى (التهديد العربي) . تكشف اليوميات أن المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية لم تعتقد أبداً أن العرب يهددون وجودها، بل على العكس كانت تلك المؤسسة تعمل على زيادة المشاكل للأنظمة العربية بعد حرب 1948، فلقد كانت تلك الأنظمة تتفادى بقدر الإمكان الاشتباك المسلح مع إسرائيل ، إلا أنها فى نفس الوقت، ولكى تحافظ على استمرارها فقد كان عليها أن تثبت أمام الرأى العام العربى أنها مستعدة للرد على السياسات العدوانية لإسرائيل، وبمعنى آخر فإن ما يسمى التهديد العربى لم يكن سوى «اختراع إسرائيلي»، لم تستطع الأنظمة العربية لأسباب داخلية أن تنكره رغم أنها كانت تخشى من القدرة العسكرية الإسرائيلية. كانت إسرائيل طبقاً لليوميات تسعى إلى دفع الدول العربية إلى مواجهات عسكرية، بهدف اكتساب المزيد من الأراضي، وتحويل إسرائيل إلى دولة عظمى فى المنطقة، ولتحقيق ذلك فإن إسرائيل كانت تعمد إلى عمليات عسكرية بعضها محدود وبعضها على مجال واسع ضد السكان المدنيين عبر خطوط الهدنة. لقد ظل العديد من الكتاب والمؤرخين حتى هذه اللحظة يعتقدون أن تأميم قناة السويس كان هو السبب الرئيسى لحرب 1956، إلا أن يوميات شاريت تعطينا زاوية أخرى هامة فى هذا الموضوع ، فقد كانت إسرائيل تخطط لحرب شاملة ضد مصر بهدف إكتساب أراض فى قطاع غزة وسيناء منذ عام 1953، واتفق المخططون آنذاك على أن الظروف السياسية سوف تكون أكثر ملاءمة خلال فترة ثلاثة أعوام، بل كانت الغارة التى نفذت على غزة فى فبراير 1955 مخططة بحيث تكون مقدمة لحرب شاملة، وهى الحرب التى كان يعارضها وزير الخارجية الإسرائيلى (موشى شاريت)، وأدت معارضته إلى تصفيته سياسياً بواسطة أنصار بن جوريون، أى أنه سواء شاركت بريطانيا وفرنسا أو لم تشاركا فى حرب السويس، فإن إسرائيل كانت سوف تمضى فى خططها بالعدوان على مصر. ومن العجيب أن العمليات العسكرية غير الإنسانية التى تنفذها إسرائيل حتى اليوم، يراها البعض مبررة فى ضوء ما يسمى (باحتياجات إسرائيل الأمنية)، رغم أن يوميات شاريت تؤكد أن بن جوريون فى عام 1954 أعد خططا لجعل لبنان دولة مسيحية، من خلال برنامج تفصيلى لتفتيت هذه الدولة، ولهذه الأسباب رفضت إسرائيل دائماً أية ترتيبات أمنية مع جيرانها لأن ذلك سوف يحرمها من افتعال الذرائع لتنفيذ عملياتها العسكرية والإرهابية فى إطار مخططها الأوسع فى التوسع. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق