مشهد احتفالات الصين بانتصار الحرب العالمية الثانية أمس يليق بدولة تقدمت الصفوف فى الأعوام الثلاثين الأخيرة، لتصبح واحدة من القوى العظمى فى الاقتصاد الدولى، ودولة يحسب حسابها فى موازين السياسة والقوة العسكرية، ليس فقط بسبب تعداد سكانها الذى يمثل نسبة معتبرة من التعداد العالمى، ولكن لما حققته من طفرات اقتصادية ومالية وتكنولوجية تتباهى بها اليوم بين الأمم. صباح أمس، كانت مظاهر القوة الصينية تزين الميادين والشوارع الرئيسية فى جميع أنحاء البلاد بينما اصطف 12 ألفا من رجال الجيش الصينى وأحدث الأسلحة التى صنعتها أياد صينية فى عرض عسكرى مبهر فى حضور زعماء دول ورؤساء حكومات من كل دول العالم، فى مقدمتهم الرئيس عبد الفتاح السيسي. احتفلت الصين بانتصارها قبل سبعين عاماً، واحتفل شعبها بما يحققه من إنجازات عملاقة على مدى إجازة وطنية لمدة ثلاثة أيام، ودوت أصوات الطائرات الحربية فى سماء بكين تطلق الدخان الملون فى مشاهد مبهرة لم يعكر صفوها تقلبات الأسواق المالية العالمية التى صارت الصين مؤشرا حاسما فى صعودها وهبوطها فى العقد الأخير. وسط الأجواء الاحتفالية بانتصارات الحرب العالمية الثانية، كانت زيارة الرئيس السيسى، لمشاركة الشعب الصينى فى المناسبة الكبرى فرصة أخرى ملائمة لإجراء مزيد من المباحثات على المستويات السياسية والاقتصادية وتوقيع اتفاقيات، والتوصل إلى اتفاق حول مزيد من أوجه التعاون بين البلدين، وقد كان لقاء الرئيس برؤساء 25 من كبريات الشركات والبنوك الصينية مؤشرا لا يمكن الجدل بشأنه عن حجم اهتمام الصينيين بالتطورات الأخيرة فى مصر، بعد تشغيل قناة السويس الجديدة، ونجاح أسرع عملية من نوعها لحفر قناة ملاحية، وهو الوصف الذى جاء على ألسنة المسئولين ورجال الصناعة والتجارة الصينيين خلال المقابلات التى جمعتهم بالرئيس والوفد المرافق. فقد خطفت قناة السويس الجديدة الأنظار فى لقاءات بكين، خاصة مع رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورؤساء الدول الأخرى الذين التقوا السيسى على هامش الاحتفالات. وهنأ المسئولون الصينيون، أيضا، الشعب المصرى والرئيس باكتشاف حقل الغاز الجديد فى البحر المتوسط، واعتبروا هذا الاكتشاف والاكتشافات المتوقعة فى المستقبل بأنها تطور كبير سيسهم فى نقلة نوعية للاقتصاد المصرى تحقق ما يأمل الرئيس السيسى فى تحقيقه برفع معدل النمو من 4.1% إلي 7.5%. كما حظى الجيش المصرى بتقدير القيادة والشعب الصينى لمشاركة عدد من أفراده فى العرض العسكرى بمناسبة الاحتفال، وهذه المشاركة اعتبرها الرئيس الصينى رسالة مصرية بالغة الأهمية، تؤكد الاهتمام المصرى بتطوير العلاقات فى جميع المجالات. كيف لا نذهب إلى بكين بعد موسكو وكلنا ثقة فى العلاقات الثنائية المتنامية بعد ما تحقق فى العام الماضي! يشعر الصينيون بمستوى التطور فى العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وقالوا لنا إن هذا التطور الكبير حدث خلال سنة واحدة، مثلما تم إنجاز مشروع قناة السويس الجديدة فى سنة واحدة أيضا. وكان التبادل التجارى بين البلدين قد ارتفع بنهاية عام 2014 بنسبة 13%، وخلال النصف الأول من عام 2015 بنسبة 15%، وبلغ عدد الشركات الصينية التى تستثمر فى مصر 1123 شركة علاوة على التعاون بين البلدين فى مشروعات بالقارة الإفريقية، وهو تطور ، حسب المسئولين الصينيين، يعد غير مسبوق فى علاقات بلادهم مع دولة فى العالم خلال سنة واحدة.
فى لقاءات.. الرئيس بالرئيس الصينى ورئيس الوزراء كانت كلمات القيادة الصينية تحمل توقيرا واحتراما لشيئين أساسيين فى التطورات الإيجابية المتلاحقة فى مصر: الأول، وجود إرادة سياسية للبناء والتنمية والتقدم. الثاني، القدرة على تحويل الحلم إلى واقع، وتحقيق معجزة خلال عام واحد. من جانبه حرص الرئيس على أن يبلغ الجانب الصينى عدة رسائل تشكل محاور ومبادئ السياسة الخارجية المصرية: المبدأ الأول، أن مصر جادة فى ترسيخ العلاقة مع الصين المبدأ الثاني، أن المصريين مصرون على التحرك بكل قوة لبناء بلدهم بالتعاون مع أصدقائهم المبدأ الثالث، أن مصر تحترم اتفاقياتها وتعاقداتها والتزاماتها الدولية. الرئيس الصينى أشاد فى كلمته خلال جلسة المباحثات الرسمية مع الرئيس السيسى بتحقيق هذا الإنجاز خلال عام، وربط بين تحقيق هذا الإنجاز وتعزيز التوافق الوطنى فى مصر، حيث كانت فكرة «التماسك والتلاحم الوطني» ملحوظة فى كلمة الترحيب التى ألقاها الرئيس الصينى فى بداية المباحثات حيث اعتبرها من ضمن إنجازات العام نفسه الذى شهد افتتاح قناة السويس الجديدة وهى إشارة قوية إلى أن دولة كبرى مثل الصين تنظر إلى الصورة الكاملة فى الدول التى ترتبط معها بعلاقات اقتصادية ومالية وتجارية واسعة ولا ترى الأمر بخفة أو بعين المصلحة الذاتية فقط. كما أشار الرئيس الصيني إلى تزايد الوجود المصرى على الساحتين الإقليمية والدولية خلال العامين الماضيين. فهناك رغبة صينية كبيرة فى تطوير العلاقات الاستراتيجية الكاملة ومستويات التعاون ومنها المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. أما رئيس الوزراء. فقد تحدث فى كلمته عن إظهار المصريين لقدراتهم بإنجاز مشروع قناة السويس الجديدة خلال عام واحد، وهو ما وصفه بأنه غير مستغرب على حضارة وتاريخ مصر. وتؤكد حوارات بكين أن الجانب الصينى حريص تماما على مشاركة مصر فى تحقيق هذه النقلة النوعية الكبرى فى اقتصادها حيث يرى كبار مسئوليها أن مشاركة الصين فى مشروع تنمية منطقة قناة السويس هو «ضرورة إستراتيجية» ولم تكن الكلمات السابقة مجرد مجاملة دبلوماسية، فقد تعرف الوفد الصحفى، المرافق للرئيس، على تفسير الاهتمام الصينى بالقناة الجديدة، عندما التقى الرئيس ظهر أول أمس الأربعاء مع مجموعة من رؤساء الشركات الصينية الكبرى، حيث تسابق عدد من رؤساء تلك الشركات على شرح أهمية مشروع تطوير القناة وتحقيق ازدواج فى زمن قياسى ودلالات هذا الإنجاز الكبير، فالبعض أشار إلى أن العالم كان يتحدث قبل قناة السويس الجديدة عن سرعة الصينيين فى الإنجاز، أما بعد شق القناة الجديدة فى عام واحد، فمن حق المصريين، على حد وصف مسئولى الشركات الصينية، أن يتحدث العالم الآن عن «سرعة المصريين» فى الإنجاز. والبعض قال صراحة: إن مشروع الصين لإحياء طريق الحرير حقق طفرة كبيرة على يد المصريين بوجود قناة السويس الجديدة التى فتحت الأبواب أمام الصين لزيادة تجارتها الخارجية مع القارة الأوروبية وعلى محاور وأصعدة عديدة. من جانبهم، لم يغفل رجال الأعمال الصينيون أيضاً أن افتتاح قناة السويس الجديدة يوفر فرصة سانحة لرسم إستراتيجية صينية حيال منطقة الشرق الأوسط قائمة على مزيد من الثقة والمصالح. فقد عبر بعض المسئولين فى تلك الشركات من خلال مقترحات مهمة عن رغبتهم فى المشاركة بأفكار تعزز مواصلة مصر مشروعها الوطنى للتنمية. فعلى سبيل المثال، دعا البعض الرئيس السيسى لكى يضع تطوير الموانئ المصرية على رأس أولوياته كخطوة مكملة لقناة السويس الجديدة، وكذلك دعوا أيضا الى مواكبة التشريعات الخاصة بالاستثمارات الأجنبية فى مصر مع أهداف التنمية. وفى نفس الإطار.. هناك مشاورات مع صندوق التنمية الصينى لتنفيذ مشروعات فى مصر، وأحد قيادات الصندوق صرح بأن عودة مصر بقوة إلى الساحة الإقليمية والدولية يعزز فرص التعاون مع مصر فى مشروعات بالقارة الإفريقية. وكانت الاتفاقيات التى تم توقيعها خلال الزيارة قد تضمنت الاتفاقية الإطارية لدعم رفع القدرات الإنتاجية فى مشروعات مصرية (14مشروعا فى قطاعات الصناعات المعدنية والكيماوية والجلدية والسكك الحديد يةوالكهرباء وفى قطاع البناء والتشييد) ، والاتفاقية الثانية بشأن قرض 100 مليون دولار من بنك التنمية الصينى للبنك الأهلى لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وقد ساعد مستوى تمثيل الوفد المصرى المرافق للرئيس على دفع المحادثات خطوة إلى الأمام، فقد اصطحب السيسى معه وزراء التجارة والصناعة منير فخرى عبد النور والاستثمار أشرف سالمان والكهرباء محمد شاكر لاستكمال المفاوضات مع الجانب الصينى حول عدد من المشروعات والاتفاقيات فى مجالات الطاقة والصناعة والاستثمارات والمجالات العلمية منها على سبيل المثال المنحة الصينية الكاملة لمصر لإنشاء مركز لمراقبة وتصنيع الأقمار الصناعية واتفاقيات أخرى سيتم التوقيع عليها خلال زيارة الرئيسى الصينى لمصر فى النصف الثانى من شهر ديسمبر القادم . والخلاصة، أن ما عبر عنه رؤساء الشركات بأن مصر بعد قناة السويس الجديدة ومؤشرات الاقتصاد الأخيرة قد أصبحت تحظى بالثقة والمصداقية، وهو ما يؤكد أن مصر تسير بخطوات ثابتة نحو استعادة مكانتها الدولية والإقليمية ورغبة دول العالم فى تعزيز العلاقة مع مصر. برهنت.. زيارة الصين وقبلها روسيا وسنغافورة على أن القيادة السياسية تسير على طريق واضح وفى عملية إعادة البناء على المستوى الداخلى ووضع مصر على خريطة الدول الناشئة من خلال توطيد أركان التعاون والشراكات مع الدول الأكثر تقدماً، وتنويع خيارات التعاون واحد من أهداف السياسة الخارجية للرئيس السيسى التى تجنى ثمار العمل الدؤوب والجاد على مدى الشهور الماضية والتى تقوم على عودة مصر إلى الساحتين الدولية والإقليمية سياسيا واقتصاديا وعدم الانسلاخ عن قضايا الشرق الأوسط التى تحتاج استعادة الدور المركزى لمصر أكثر من أى وقت مضى بعد أن غرقت شعوب المنطقة فى صراعات ومآس عظيمة فيما قاد الشعب المصري، مدعوما بجيشه، واحدة من أشجع عمليات التغيير يقف العالم لها احتراما اليوم رغم ما شابها من إرهاب وعنف من جماعات دموية إلى جانب نخب سياسية ومال سياسى يسعى للسلطة ولا يعنيها مستقبل أمة أو مصير شعب. يعود الرئيس السيسى من رحلته الآسيوية ظافرا بدعم عواصم كبرى لمشروع التحديث والتنمية ووضع مصر على خريطة الاستثمارات العالمية وحريصا أشد الحرص على التماسك والوحدة الداخلية التى تمهد الطريق لمزيد من النجاحات فى المستقبل. فى روسياوالصين وسنغافورة، ظهرت مقومات المستقبل التى نعول عليها للنقلة النوعية التى نرضاها للأجيال الجديدة ولعل اهتمام الدول التى زارها الرئيس بتطوير العلاقات مع القاهرة يمثل قوة دافعة لمواصلة العمل والإصرار على برنامج إصلاح يرضى طموحاتنا ويؤكد أننا على الطريق الصحيح. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام