تمر الأيام والشهور ولا يحدث أى شىء مثير، إن هذه البقعة اللعينة من المحيط يخشاها البحارة، حتى المغامرون لا يجرؤون على النظر فى هذا الاتجاه لدى مرورهم بالقرب منه. إننى قد أصابنى الاكتئاب ها هنا، أشعر برغبة غامرة فى مغامرة شيقة تخرجنى من هذه الرتابة، لولا أن الطعام متوافر بكثرة فى هذه المنطقة وعدم وجود ما يزعجنى لغادرتها على الفور، إن زعانفى تؤلمنى من عدم الحركة، أشعر بعظامى كأنها تكاد تتكسر، دمائى تكاد تتجمد فى عروقى، ماذا علىّ أن أفعل؟ فها هى الصباحات تمر والمساءات تذهب ثم تعود. هل علىّ أن أغادر هذه البقعة لمجرد أننى أشعر بالملل؟ هل هذا سبب جيد للتخلى عن كل هذه الثروة التى أتمتع بها؟ كانت الأفكار تكاد تخنقنى حين سمعت صوتا يقترب نحوى فى بطء شديد، فلم أتمالك نفسى وهرولت لمعرفة مصدر هذا الصوت، كانت الأسماك تهرب من أمامى، وأنا أقفز هنا وهناك، إنها سفينة، لابد أن قائدها لا يعرف أين هو، وما هو المصير الذى سيلاقيه فى هذه المنطقة، إن رحم هذه البقعة ممتلئ بالأشلاء. فهل هناك متسع لغريق آخر؟ هل يجب أن أحذره من مغبة قدومه إلى هنا؟ ولكن كيف سأنبهه بخطورة المكان؟ كان عليه أن يعرف وحده ولكنى سوف أحاول، ها هم بعض الركاب خرجوا ليستمتعوا بهذا الهدوء الرائع الذى تتمتع به المنطقة،يبدو أن قفزاتى قد راقت لهم، فها هم يتابعوننى بنظاراتهم المقربة، سوف أقترب منهم أكثر، نعم هذا مناسب، ولكن هؤلاء الحمقى لا ينظرون نحوى ليقرأوا حركاتى. إنهم يأخذون بعض الصور لى وينتظرون أى حركة حتى يصوروها، هؤلاء البشر حمقى ولكن إلى أى مدى؟ لا أعرف، ليس هناك سبيل لمعرفة ذلك سوى بالتمادى فى الاقتراب منهم وجذب انتباه أحدهم ليستنبط ما أريد أن أخبرهم به، إن الموت ما سيواجهونه إذا ما استمرت سفينتهم فى التقدم، نعم الموت. سوف أقوم بتمثيل الموت، لقد شاهدت الكثير من الأسماك تموت، سوف أنقلب ثم أستقر على ظهرى فى الماء وأتوقف تماما عن الحركة، ها هى تقارب فكرتى على النجاح. إن جميع قاطنى سطح السفينة ينظرون ناحيتى، وبعضهم يصرخ، لكن السفينة لا تتوقف، هل ما أفعله لا يكفى لإيقافهم؟ إنهم على بعد زعنفات قليلة من الهاوية، ها هى تكاد أن تتوقف وأحدهم يقفز باتجاهى، هل يظن هؤلاء الحمقى أننى احتاج مساعدتهم؟ يا لهم من قليلى العقل، ها هى الهاوية تبتسم لصيدها الجديد، وها هى الأمواج تتزاحم لتحتضن فريستها الشهية، ربما فى المستقبل أجد من يفهمنى. غرقت السفينة هكذا دون مبرر، كانت تتهادى على صفحة الماء الرائقة بينما كانت طيور النورس تحلق كراقصات البالية، وحده الحوت كان يعرف ما سيحدث،فلقد قام فجأة بحركات غريبة ، كان سرب التونة يهرب بكل ما أوتى من قوة، رغم أنه كان متأكدا أن الحوت لا يتنمر له، كأنه يهرب من قاتل شرير يريد أن يفتك به، كنت أصرخ عاليا حتى أطمئنه، هذا الحوت لا يقصد إيذاءك. ربما هو مصاب بالوحدة ويريد أن يلهو قليلا معك، لقد لمحت أثر الحزن باديا على ملامحه، كان يعانى شيئا عصيبا يقتله حزنا وأسى، وهو ربما ما دفعه للهو بسرب التونة، ولكن نظرا لضخامته وقوته المفرطة فى اللهو، كان رد فعل سرب التونة وكل الأسماك المحيطة هو الهرب، كنت بالصدفة قد علمت أن أحد راكبى السفينة هو عالم للأحياء البحرية، فهرولت إلى الاستعلامات واستعلمت عن رقم غرفته، اتصلت به هاتفيا لكنه لم يرد، كان الموقف يزداد سوءا عند عودتى، نظرات الحوت تزداد غرابة، الحزن العميق بدا على ملامحه كقناع رهيب لجيفة، خفقات قلبه كادت تمزق روحى، ثم حدث ما كنت أخشاه، استلقى على ظهره، وهذا ما يحدث عند نفوق الأسماك, لكن هل الأسماك النيلية تشبه البحرية، وهل سمك البلطى يشبه موته موت حوت بهذه الضخامة؟ كانت حركاته قد أخذت فى الهدوء وهنا لم احتمل، هرولت إلى غرفة عالم الأحياء البحرية وأخذت اطرق بابه دون وعى ولكنى علمت بمجرد النظر إليه وخروج بعض ساكنى الكبائن المجاورة أننى كنت فظاً فى تعاملى مع الباب، كاد يغلق الباب فى وجهى لولا أننى بادرته باعتذارى فصمت برهة فباغته بسردى لما حدث دون أن أتوقف حتى انتهيت من سرد ما حدث، كنت قد جهزت بعض العبارات حتى أقوم بإقناعه فى حال ما حاول الاعتذار، ولكنه لم ينتظر حتى ارتدائه بقية ملابسه وهرول إلى سطح السفينة، ووقف فى المكان الذى وصفته له ، عند وصولى كان الحوت قد همد تماما واستقر على مقربة من السفينة دون حركة، كان بعض الركاب قد لاحظ ما حدث مما دفعهم للتجمهر لمشاهدة الموقف، أوقف الربان السفينة، قفز الرجل فى الماء وتوجه بسرعة نحو الحوت، كدت أقفز خلفه لكننى لم أسبح سوى فى الترعة المجاورة لحقلنا فتراجعت فى قرارى، كان الجميع يصوب نظره على العالم لكننى كنت أتابع الحوت المسكين، عندما وصل العالم إلى الحوت...... لا لم يتحرك إننى بالتأكيد كنت أتوهم هذه اللقطة فلقد خرجت صيحة جماعية كأنها صوت نشاز من أوركسترا يعزف دون مايسترو، كانت الصرخة قوية ومتباينة وعند توجهى لمعرفة ما يحدث كانت السفينة تتهادى إلى الأسفل كأنها حبيبة عادت إلى أحضان معشوقها، لقد احتضنها الماء بكل قوة ونعومة، وسحبها برشاقة نحو قلبه، وفى هذه اللحظة قفز الحوت عاليا كطفل بهرته الألعاب النارية.