أظن أنه مع انهيار الكتلة الشيوعية فى عام 1991 توارى مصطلح «صراع الطبقات» الذى كان محور «منفستو الحزب الشيوعى» الذى كان قد أصدره ماركس وانجلز معاً فى عام 1848 وجاء فى مفتتحه أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ صراع الطبقات، أو بالأدق صراع بين طبقتين: البرجوازية والبروليتاريا. وكانت البرجوازية، عندهما، تعنى الرأسماليين الذين يمتلكون وسائل الانتاج. أما البروليتاريا فهم العمال الذين يبيعون قوة عملهم فى مقابل أجر معين يستعينون به فى مواجهة شئون الحياة الدنيا. أما خاتمته فقد أعلنا فيها أن الثورة الشيوعية قادمة وذلك بفضل وحدة العمال فى جميع الدول. وما حدث، بعد ذلك، بستة وثمانين عاماً على نقيض توقعات المنفستو، ومن ثم توارى مصطلح «صراع الطبقات». وعندئذ أثير السؤال الآتى: ما البديل؟ تولى الاجابة عن هذا السؤال كتاب فى عام 1997 عنوانه « تصادم الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمى» لعالم الاجتماع صموئيل هنتنجتون. أحدث زلزالاً فكرياً كان فى الأصل مقالاً نُشر فى مجلة «فورين أفيرز» فى صيف عام 1993 قال عنه محررو المجلة فيما بعد إنه قد أحدث ضجة لمدة ثلاث سنوات، وهى ضجة لم تواكب أى مقال آخر نُشر منذ الأربعينيات من القرن العشرين وذلك بسبب فكرته المحورية القائلة بأن الصراع القادم هو صراع بين جماعات من مختلف الحضارات. وكانت الأصولية الاسلامية المنتشرة فى مصر وسوريا والأردن وباكستان وماليزيا وأفغانستان والسودان هى أقوى الأصوليات المهيأة للدخول فى ذلك الصراع الذى بدأ مع غزو أمريكا للعراق فى عام 1993، وفى حينها قيل عن هذا الغزو إنه حرب ضد «الاسلام وحضارته» من قبل «الصليبيين والصهيونيين». وقال الملك حسين عن ذلك الغزو إنه حرب ضد كل العرب وكل المسلمين وليس ضد العراق وحدها. ومن هنا انتقلت السلطة من المؤيدين للغرب إلى المعادين للغرب ومن ثم تفككت الرابطة التى كانت تؤلف بين بعض البلدان الاسلامية وأمريكا. وأثير سؤال محورى حول الدور الذى يمكن أن تؤديه الحضارة الاسلامية فى تشكيل مستقبل العالم، أو الدور الذى يمكن أن يؤديه الغرب فى القرن الحادى والعشرين فى شأن تدعيم قيمه ومصالحه. وحيث إن الأصولية الاسلامية هى حالة ذهنية على نحو ما أرى وليست حالة اقتصادية أو سياسية على نحو ما يرى الآخرون فإن العقل وما يدور فيه من أفكار يكون فى الصدارة. وفى هذه الحالة يبدأ صراع العقول ويكون بديلاً عن صراع الطبقات أو صراع الحضارات، ويكون هو العامل الأساسى والحاسم فيما يحدث الآن على كوكب الأرض. ولا أدل على صحة ما أذهب إليه من أن المجتمع فى هذا القرن يقال عنه إنه «مجتمع المعرفة»، وهو مصطلح صكه عميد علم الادارة فى أمريكا بيتر دراكر تعديلاً لعبارة الفيلسوف الانجليزى بيكون من القرن السابع عشر والتى تقول «المعرفة قوة». وإذا تساءلت كيف تكون المعرفة قوة فجواب دراكر أنها تكون كذلك عندما تكون قوة إنتاجية تضاف إلى عوامل الانتاج الثلاثة التقليدية وهى المال والعمل والأرض إلا أن المعرفة، فى هذه الحالة، تقع عند قمة هذه العوامل بالضرورة لأن أساسها الابداع، ومن ثم يمكن القول بأن مجتمع المستقبل هو «مجتمع المعرفة» على حد تعبير دراكر أو هو «مجتمع الابداع» على حد تعبيرى. وسواء كان هذا المجتمع أو ذاك فهو فى نهاية المطاف «مجتمع العقل». ومجتمع العقل مثله مثل أى مجتمع ينطوى على صراع. وقد كشف الفيلسوف الألمانى العظيم كانط عن هذا النوع من الصراع فى مقاله المعنون «جواب عن سؤال: ما التنوير؟»( 1784). جواب كانط أن للعقل خاصية متميزة فى أنه محكوم بمواجهة مسائل ليس فى الامكان تفاديها، إذ هى مسائل مفروضة عليه بحكم طبيعته، بيد أن العقل عاجز عن الاجابة عنها. وهذه المسائل تدور على مفهوم المطلق سواء قيل عنه إنه الله أو الدولة. ويزيد الأمر ايضاحاً فيقول إن ثمة حالتين: حالة البحث عن المطلق وحالة قنص المطلق. والسؤال اذن: ما مغزى هاتين الحالتين؟ المغزى أن العقل فى صراع مع ذاته، إذ هو يشتهى قنص المطلق حتى يصل بالمعرفة إلى منتهاها، ولكنه فى الوقت ذاته عاجز عن قنص المطلق بحكم طبيعته، إذ هو محكوم بعدم مجاوزة هذه الحياة الدنيا التى فى مقدوره معرفتها وليس فى مقدوره معرفة غيرها من أية حياة أخرى. ومن هنا يحذر كانط الانسان من الوقوع فى إغراء علوم العقائد، وهو إغراء كامن فى أنها تخدعه بأن فى إمكانه مجاوزة حدوده. وعلامة هذه المجاوزة كامنة فى محاولته البرهنة على وجود موجود لا محدود مستعينا فى ذلك بعقله المحدود، ومن هنا تكون المحاولة يائسة فى حدها الأدنى وفاشلة فى حدها الأقصى لأنك لن تستطيع المفاضلة بين البرهنة على وجود اللامحدود والبرهنة على عدم وجوده. وإذا انخدع العقل وفاضل فإنه واقع بالضرورة فى براثن الدوجما ومنها إلى الدوجماطيقية التى تعنى توهم قنص المطلق أو بالأدق قنص الحقيقة المطلقة وما يترتب على هذا القنص من قتل مَنْ يزعم أنه اقتنص حقيقة مطلقة مخالفة. وفى حالة حدوث هذه الدوجماطيقية فالمطلوب من العقل فى هذه الحالة أن يكون على وعى بأنه فى حالة القنص لا يكون العقل هو ذاته بل يكون خارج ذاته، وهو أمر من شأن الانسان ذاته وليس من شأن الآخرين، فهو وما يشاء دون التفات إلى ما يشاء الآخرون. وفى هذا الاطار نشأت مناظرتان فى هذا القرن معبرتان عن صراع العقول. فما هما؟ وماذا فيهما؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة