كان ممكنا، بل ومطلوبا، فى ظل الحداثة، أن ينزاح الدين من المجال العام السياسى إلى المجال الخاص الفردى، متنازلا عن ادعاءاته بالقدرة على تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على العلوم والمكتشفات، ليقتصر دوره على الإلهام الروحى والتوجيه الأخلاقى. وفى المقابل لم يكن ممكنا ولا مطلوبا أن يفقد الدين كل قيمته أو يُعلن عن موته بضربة سيف العقلانية مثلما تصورت عقيدة التقدم، القائلة بأن التاريخ يتحرك دوما وحتما إلى الأمام، وأن تلك الحركة تعنى بالضرورة حلول منطق العقل الجديد بديلا كاملا عن منطق الروح القديم، الذى يقع الدين فى قلبه، ومن ثم يموت الدين، باعتباره معرفة عصر بدائى غارب، تحت أقدام الحتمية التاريخية، باعتباره، على حد وصف ماركس، مجرد «تنهدات خليقة منهكة، وقلب عالم لا قلب له، وروح عصر لا روح له»، ما يعنى أن الدين ليس إلا «أفيون الشعوب»، الذى يغطى على تناقضات العالم الواقعى، حيث أن مصير الإنسان لا يمكن تصوره إلا فى ضوء علاقته بالطبيعة، ومدى سيطرته عليها، وكذلك علاقته بالآخرين، وقدرته على إخضاعهم لمشيئته، أو على العكس الوقوع تحت سيطرتهم، والخضوع لمشيئتهم. ومن ثم أكد ماركس أن الدين صائر حتما إلى الزوال، طالبا من كل إنسان الاستعداد لتلك اللحظة التى يزول فيها بفلسفة أرضية تحقق له استقلاله المطلق فى مواجهة أية قوة عليا مزعومة، أو مبدأ متعال أو حقيقة مطلقة تقع فيما وراء النشاط الإنسانى ذاته، أو تدعى السمو عليه. ومن جانبه بلغ نيتشه لحظة الذروة بإعلانه الصريح عن «موت الله» على مذبح الإنسان الأعلى «السوبرمان» فى البيان النيتشوى للعدمية الذى أعلنه على لسان زرادشت، مؤكدا فيه أن انتظار العناية الإلهية ليس سوى خنوع وتضحية بالروح الإنسانى والوجود الفردى وبكل ما لدى الإنسان من حرية وكبرياء ويقين ذاتي. ومن ثم يقرر أن المسيحية ليست سوى وهم المسيح الذى استهلك نفسه فى البحث عن ملكوت أخروي، فلم يعرف الحياة أو يجربها حقيقة، وأنه لو كان عرفها لكان تجاوز أوهامه عنها. وأما فرويد، فاجتهد فى التدليل على أن الدين لم يكن أبدا حقيقة تاريخية، بل وهما إنسانيا صاحب المسيرة البشرية فى لحظات ضعفها وحيرتها. ولديه، فإن الأفكار الدينية، كغيرها من سائر إنجازات الحضارة، تنبع من ضرورة دفاع الإنسان عن النفس ضد تفوق الطبيعة الساحق، وضد شعوره بالحيرة والضياع أمام قواها المخيفة، الأمر الذى يتيح له أن يقيم علاقة معها، وأن يؤثر عليها فى خاتمة المطاف. فالإنسان البدائى لا يملك طريقة أخرى فى التفكير، ومن الطبيعى عنده أن يسقط ماهيته على العالم الخارجى، وأن ينظر إلى جميع الأحداث التى يلاحظها وكأنها من صنع كائنات مشابهة له. غير أن عقيدة التقدم هذه على شتى تنوعاتها، ورغم كل تبريراتها، لم تستطع النهوض بدور الدين، كرؤيا شاملة للوجود، لأن النجاح فى ممارسة ذلك الدور يفرض عليها أن تتسع لتشمل كل جوانب النشاط البشرى: الأخلاقية والروحية، وليس فقط السياسية، والمعرفية. ومعنى ذلك أنها، كى تصلح بديلا حقيقيا عن الدين فى إضفاء معنى كلى على الوجود الإنساني، ستكون مضطرة، هى نفسه، أن تتحول إلى ديانة جديدة تتفرع عنها معتقدات شتي، تحيل الإنسان أو (العقل) إلى مطلق جديد بديلا عن الله، ففى ظل غياب الله، لا يمكن أن يكون للفضيلة أو الرذيلة أى معنى حقيقى، ومن ثم فلابد أن تؤدى حاجتنا إلى مرجعية أخلاقية كبرى، مع غياب المرجعية الإلهية، إلى فتح الباب على أوهام إنسانية أكثر أسطورية، ونزعات شمولية أكثر عنفا. فمثلا، وفى ظل سعيه لنفى الدين كعقيدة سماوية، أوجد ماركس عقائد أرضية بديلة عنه: فثمة عقيدة الموضوعية جوهرا للفكر، وعقيدة الطبيعة جوهرا للعلم، وعقيدة الديمقراطية جوهرا للسياسة، بل وعقيدة الإنسانية جوهرا للأخلاق. وهكذا أدى نفى المطلق الإلهي، إلى خلق مطلق إنسانى جديد هو التاريخ، وديانة جديدة هى الاقتصاد، بل ونبى أو مخلص جديد هو «البروليتاريا» أو الطبقة العاملة التى تصير لدى ماركس قادرة على تخليص الوجود البشرى من حل مظاهر الظلم والتفاوت الطبقى، الناجمة عن غياب المساواة الحتمية بين البشر. وهنا كان ضروريا أن يستحيل معتنقى الشيوعية إلى شعب الله المختار، المستحق للخلاص من دون الرأسماليين «الكفرة» الذين لم يبذلوا فى محاولة فهم حركة التاريخ المادية / الجدلية ذلك القدر الذى يؤهلهم للنجاة من ذلك المصير الرأسمالى البغيض! وهكذا تستحيل رؤية ماركس للتاريخ أشبه برؤية لاهوتية جديدة مركزها إنسانى، ومحيطها تاريخى، وقلبها اقتصادي، وجوهرها مادى، وجدت تجسيدها الأبرز فى كيان امبراطورى واسع (الاتحاد السوفيتى) اضطهد الدين المسيحى/ الأرثوذكسى باسم الدين الإيديولوجى/ الشيوعى، قبل أن يعيد التاريخ بدهائه ترتيب العلاقة من جديد، ليعود المقدس المسيحى، ويرحل الدنيوى الإيديولوجى. وأما محاولة أوجست كونت، تجاوز الدين التقليدى القائم على مركزية الله بدعوى أنه يصوغ عقلية عتيقة لم تعد لديها القدرة على مواكبة العلم والمعرفة، والاستعاضة عنه بدين «عبادة الإنسانية»، فلم تعدو أن تكون محاولة هزلية فشل فى استمالة الناس إليها، لأنها لم تكن فى دقة مفاهيم العلم الحديث، ولا فى سمو الغايات الدينية، فلم يعد لها ذكر بمجرد رحيل الرجل، لتفشل من جديد كل محاولة تستبدل بالوحى الدينى الفائق للطبيعة والتاريخ، فكرا علمياً ينضوى فى سياقهما، لأن ما ينبت فى التاريخ، يظل قابلا للتجاوز الدائم والفناء الأبدى، فلا خلود إلا لما هو متجاوز أصلا، ومتسام أبدا. ما نقصد إليه هنا ليس التقليل من أهمية مفهوم التقدم فى صوغ رؤية للتاريخ تتسم بالإيجابية، تنظم عمل الإنسان وتحفز محاولاته لتغيير عالمه المادى إلى الأفضل، بل التحذير من تحويل هذا المفهوم التاريخى إلى عقيدة كاملة، إذ لا يكفى وحده لصوغ رؤية شاملة للوجود الإنسانى تمنحه معنى كلى ومتسام، وتجعله أكثر سيطرة على نزعات الشر والعبث الدفينة فيه. فالمزيد من التقدم المادي، والنمو التكنولوجى لا يقوضان الحاجة إلى الدين، بقدر ما يزيدان منها، حيث التنامى المفرط للقوة المادية يفرض الحاجة المتزايدة للقيم الدينية الجوهرية، ليبقى ضمير الإنسان فى مستوى حذق عقله وقوة عضلاته، وإلا فقد التاريخ حكمته على نحو ما نرى من مشاهد مجنونة وصراعات دامية!. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم