ظلت العاهة التى أصابت الأحزاب السياسية تلازمها منذ الولادة، بل ازداد التشوه والهزال بمضى الوقت، حتى أضحت الأحزاب أشبه بشواهد قبور على تجربة ديمقراطية فارغة من أى محتوي، تنفر الناس من المشاركة السياسية. كان السادات شرع فى إنشاء الأحزاب السياسية فى منتصف السبعينيات، ليبدو مختلفا وديمقراطيا عن عبد الناصر، لكن دون أن يترك ولو جزءا يسيرا من الحكم الشمولي، فقرر إنشاء ثلاثة منابر، استولدهم بعملية قيصيرية من رحم الاتحاد الاشتراكى «حزب السلطة الوحيد» وأن يحتفظ بجسد النظام ورأسه فى منبر الوسط، ويخصص جناحين بلا ريش أو لحم لكل من منبرى اليسار والوسط، واختار خالد محيى الدين لرئاسة منبر اليسار، على خلفية أن خالد تعرض للتهميش على أيدى عبد الناصر منذ أزمة مارس 1954، عندما انحاز محيى الدين إلى محمد نجيب، وجمع الحزب الكثير من الاتجاهات المختلفة من ناصريين وشيوعيين وقوميين وغيرهم، ليتحول منبر اليسار إلى حلبة ملاكمة بين الفرقاء. كما اختار مصطفى كامل مراد وهو من الضباط الأحرار المغموين ليضعه على رأس منبر اليمين الذى تحول إلى حزب الأحرار الاشتراكيين، وظل حزبا هشا لا يملك إلا مقار خاوية وتراخيص صحف للإيجار. وعندما غضب السادات من حزب التجمع اليساري، لاتهامه بتدبير انتفاضة الخبز فى يناير 1977، ولرفضه اتفاقية كامب ديفيد، قرر السادات انشاء حزب يسارى آخر برئاسة المهندس إبراهيم شكرى الذى كان وزيرا للزراعة، وأنشأ له حزب العمل الاشتراكي، ومنحه 20 عضوا بالبرلمان لاستكمال إجراءات التأسيس هدية من «حزب مصر العربى الاشتراكي» الحاكم، لكن عندما بدأ حزب العمل يتحفظ على بعض بنود كامب ديفيد، انقلب عليه السادات. وهو ما تكرر مع حزب الوفد، الذى رحب بعودته للحياة السياسية عام 1978، بوصفه حزبا رأسماليا معاديا للناصرية والشيوعية، لكن عندما وجد نجم سراج الدين يلمع، قيده بقانون يمنع من مشاركة من أفسدوا الحياة السياسية قبل ثورة يوليو 1952 من العمل السياسي. وهكذا لم تكن الأحزاب تولد أو تموت إلا بقرار من الرئيس، الذى كان يختار معارضيه، وليس فقط معاونيه وأتباعه. ظهرت جماعة الإخوان على الساحة الانتخابية فى منتصف الثمانينيات، مستفيدة من ضعف الأحزاب السياسية، ومستقوية بكونها مؤسسة اجتماعية واقتصادية ودينية وثقافية متكاملة، أشبه بكيان القبيلة، لتستفيد من ضعف الدولة وتهميشها لقطاعات كبيرة من الجماهير، فتوفر العمل لأعضائها، وترعى أدق شئونهم، حتى باتت دولة داخل الدولة، بل هى بديل للدولة أحيانا. ولأن الجماعة كانت ترفض إنشاء حزب سياسي، فكانت تخوض الانتخابات على قوائم أى من أحزاب المعارضة الذى تختاره، وكانت الأحزاب الواهنة واليائسة تنظر لجماعة الإخوان كطوق نجاة من حالة العزلة والفشل، وراحت تتزاحم على نيل بركتها، بحمل قوائم مرشحيها، ربما أمكنها الصعود على سلم الجماعة إلى بعض مقاعد البرلمان، وفرشت مقار الأحزاب بالسجاجيد، لتحظى بشرف زيارة من قادة الجماعة، ينفخون فيها الحياة فى مقارهم المهجورة. هكذا جعلت السلطة من جماعة الإخوان المركز الرئيسى للمعارضة السياسية، فلا أحد قادر على تحريك المياه الراكدة سوى الجماعة، التى لديها مقومات حقيقية قادرة على انتزاع مكاسب من نظام رفض باستماتة مجرد القاء لقيمات من الشراكة لأحزاب جعلته يبدو من بعيد وكأنه ديمقراطي. ثم جاءت منظمات حقوق الإنسان الممولة من الخارج، والمدعومة من الغرب سياسيا وإعلاميا لتشغل الجزء المتبقى من الفراغ الذى عجزت أحزاب المعارضة عن ملئه، لتصبح المستفيد الثانى من عملية خنق التجربة الحزبية. لم تكن الانتخابات البرلمانية سوى موسم لتوزيع بعض الصدقات الهزيلة على المساكين، الذين لا يعرفون النواب إلا فى سرادقات العزاء، وانحصر دور النواب فى تسهيل إنهاء أى معاملة مشروعة أو غير مشروعة من خلال جهاز الدولة البيروقراطى الفاسد، وعادة ما تكون مطالب الفقراء بسيطة، مثل نقل شخص من مكان عمل إلى آخر، أو بحث عن وظيفة ما، بينما الأغنياء يدفعون مقابل تخليص معاملات تدر عليهم المال الوفير، مثل تراخيص البناء وغيرها. ولأن صناديق الانتخابات كانت تأتى جاهزة التعليب بالأصوات، أو يجرى تعبئتها «بتسويد البطاقات» تحت أعين وحراسة الشرطة فى غالب الأحيان، فلم يكن للجماهير دور حقيقى فى تغليب مرشح على الآخر، ولهذا كان يدفع المرشح مبلغا محترما، سواء فى شكل تبرع أو هدية، ليحظى بوضعه على قائمة الحزب الحاكم. هكذا نجد أن الأحزاب السياسية شاخت منذ ولادتها ، وجاءت كلقيط ، تم ايداعه ملجأ الأحزاب، يتم استدعاؤه فى المناسبات ، بشرط ألا يدعى أى حق، أو نصيب ولو قليل فى السلطة. أحزابنا ليست أحزابا وانتخاباتنا لا تشبه الانتخابات، ومسرحنا السياسى تقف السلطة على بابه، ولا تسمح بأن يعتليه سوى الفاسدين والمتملقين محدودى الكفاءة، بينما ينتظر أمام باب المسرح بعض المهرجين والمغامرين والانتهازيين وقليل من الحالمين، لكن عروض المسرح الهزلية كفت عن الإضحاك أو حتى إثارة الشفقة، بل تحولت إلى كابوس مدمر لكل القيم الإيجابية، الضرورية لبناء دولة قوية، تسند على حقوق المواطنة والشراكة والعدالة والكرامة. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد