فى أى اتفاق بين طرفين يحكم العلاقة بينهما مبدأ أساسى لا غنى عنه عنوانه "العقد شريعة المتعاقدين".. بمعنى أن كل طرف يلتزم تجاه الآخر بتنفيذ بنود هذا العقد دون إخلال بشروطه أو تنصل من مسئولياته. وفى عالم السياسة الأكثر اتساعا وشمولا، تتبع العلاقة بين الحاكم والمحكوم "شكليا" المبدأ نفسه، بينما الواقع الفعلى يحمل تفاصيل وأرقاما وتطورات دراماتيكية – بلغة الدبلوماسية والمصطلحات الناعمة – قد تؤجل فسخ العقد بين النظام والشعب، بل وفى دول كثيرة قد ينتصر الطرف المخطيء، ويعجز من يملك الحق عن تعويض خسارته! والوضع فى تركيا خلال الشهور الأخيرة يعرض العقد بين نظام الرئيس رجب طيب إردوغان والشعب بمختلف شرائحه وأطيافه السياسية والعرقية لاختبار حساس قد يجدد الاتفاق ويعزز بقاء حزب العدالة والتنمية الحاكم فى السلطة أو يرفع احتمالات السقوط والانهيار – حتى ولو بعد 13 عاما من الانفراد بالعرش العثمانى – خصوصا مع تصاعد الأزمة الاقتصادية والانفلات السياسى المصحوب بالقمع الأمنى ضد أجنحة المعارضة من جهة، والتورط فى حرب عسكرية شرسة ومكلفة لاقتلاع الأكراد من الحدود فى مغامرة "إردوغانية" جديدة لمغازلة مشاعر الناخب التركى فى معركة انتخابات نوفمبر المقبل من جهة أخري. ويبدو أن شبح "يونيو الأسود" لا يزال يطارد أبطال "العدالة والتنمية" ليتكرر المشهد بنسبة كبيرة فى "شتاء نوفمبر"، عندما كشف آخر استطلاع للرأى أجرته مؤسسة "متروبول" أن حزب العدالة والتنمية فى تركيا سيفشل مجددا فى الفوز بالأغلبية البرلمانية المريحة التى تتيح له تشكيل حكومة بمفرده، مشيرا إلى أن الحزب الحاكم سيحصل على 41٫7% فقط من أصوات الناخبين، مقابل 25٫5% لحزب الشعب الجمهوري، و15٫7% ل"الحركة القومية"، و14٫7% ل"الشعوب الديمقراطي". واعتبرت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية قرار إجراء الانتخابات المبكرة "مقامرة سياسية" بعد فشل نظام إردوغان فى تشكيل حكومة ائتلافية تستوعب كل تيارات المعارضة وتمتص غضب الخصوم من فكرة احتكار السلطة، وأوضحت الصحيفة فى تحليلها للموقف أن ما حدث لا يخرج عن كونه "تمثيلية" من الرئيس التركى لإحراج المعارضة التى أخفقت فى الاتفاق على صيغة مشتركة، وتمرير خطته الجهنمية لتحويل الدولة إلى النظام الرئاسى بما يخدم هدف "الحكم الخالد". وأمام انطلاق قطار "العدالة والتنمية" إلى محطاته المرسومة، اكتفى حزب "الشعب الجمهوري" المعارض، الذى حل ثانيا فى البرلمان، وأجرى مشاورات لأسابيع على أمل إعلان الحكومة الائتلافية، باتهام نظام إردوغان بإفشال المشاورات الحكومية عمدا لتنظيم انتخابات مبكرة لاسترداد الأغلبية الضائعة، وبالتالى تصبح "نسخة نوفمبر" المرتقبة "انقلابا مدنيا" على حد وصف رئيس الشعب الجمهوري، كمال كيليتشدار أوغلو. وإذا كانت المعجزة الاقتصادية التركية هى "بيضة الإسلاميين الذهبية" التى تجلب أصوات صناديق الاقتراع طوال السنوات الماضية، فقد بدأت المعجزة الآن تفقد سحرها، من واقع أن اقتصاد البلاد يبدو أقل قدرة على تحمل أى اضطراب محتمل فى الداخل، مع ركود النمو وانخفاض قيمة الليرة، وارتفاع تكلفة الاقتراض الأجنبي، ووفقا لبيانات رسمية تراجع نمو الاقتصاد من 4% فى 2013، إلى 2٫9% فى 2015، فيما لجأ الحزب التركى الحاكم إلى الضغط على البنك المركزى لخفض أسعار الفائدة. كما أكد معهد الإحصاء التركى أن معدل البطالة بلغ 11٫2% فى المتوسط خلال الفترة من يناير إلى مارس مقارنة ب10٫2% فى الفترة نفسها من 2014، وصولا إلى تأثر مستوى الإنتاج الصناعي، ليتراجع النشاط عموما وتسوده الاحتجاجات العمالية المطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل. وفى الوقت الذى تستشعر فيه قيادات العدالة والتنمية الخطر من جولة نوفمبر الحاسمة، وسط تكهنات قوية بأن الأمور قد تعود إلى المربع صفر، يتوقع مراقبون أن يكون إردوغان "أذكي" من الوقوع فى "حفرة" الانتخابات، وقد يلعب ب"ورقة" الرئيس السابق عبد الله جول وإعادته إلى رئاسة الحزب الحاكم، لما يتمتع به الأخير من حكمة ورزانة وشعبية كبيرة، ليتحول إلى "سترة نجاة" للجميع. الأوراق ملتبسة فى المشهد التركى المثير فى مفاجآته وألاعيب نجومه، ليبقى السؤال فى ظل كل هذه المعطيات هو : هل ما يفعله إردوغان وجماعته مقامرة سياسية بالفعل يمكن أن تقضى على تاريخ "العدالة والتنمية" فى الحكم وتكتب النهاية ل"العصر الذهبي" لتركيا؟ أم أن ما يدبر ما هو إلا خطة جهنمية بارعة من الإسلاميين للحفاظ على "الكرسي" أمام معارضة هشة إلى حد كبير غير قادرة على المنافسة وتنظيم صفوفها؟! وهو ما تؤكده تصريحات إردوغان الأخيرة التى ربط فيها بين فوز حزبه فى الانتخابات المبكرة بتحقيق الاستقرار، على طريقة حكام دول الربيع العربى الذين خيروا شعوبهم فى أيامهم الأخيرة بين الاستقرار أو الفوضي، وحدث ما حدث؟