السطران السابقان من الأناشيد« البهيجة الغامضة كما يصفها محفوظ بنفسه فى ملحمة الحرافيش .. وكما ملأ بها أديبنا روايته ، ولم يرد أن يشرح معناها وابتغى أن يدخل القارئ فى حالة من الغموض الجميل لينطلق خياله فى تفسيرات مختلفة .. وربما عنى بها أن الانسان يتفاعل مع الكلام المبهج ذى اللحن الشجى حتى ولو لم يفهمه ... ترتاح روحه وتصفو سريرته ويتمايل طربا كلما استمع اليه .. هكذا أردنا أيضا أن يتصدر البيتين الغامضين «مشوار» نجيب محفوظ ليصفا هذه التوليفة من المشاهد التى لايربط بينها إلا فخامة صاحب الذكرى ليصل الى القلب مباشرة .. مشوار لا يحتاج الى شرح ولا تفسير .. فى عصر عجيب من الماديات الزائفة وببساطة تدعو الى الدهشة مضى محفوظ مشواره متكئا على عصاه ليسبق به عصره و الدنيا كلها بمسافة كبيرة .. يتجول فى شوارع القاهرة على قدميه فى مشهد معتاد ، مشوار لخصته صورته الشهيرة ممسكا بالأهرام جريدته المفضلة ،وفى اليد الأخرى هذا العكاز الخشبى العتيق الذى عاصر جميع حكاياته وشاهد معه أبطال رواياته .. وتبادل الإعجاب والحب والأبوة والحميمية مع حرافيشه وفتواته وهوانمه وبهواته ومحبيه .. وشهد معه مشوارا تملؤه البهجة والغموض والشجن كهذه الأناشيد تماما. مشوار حياته لخصه فى « أحلام فترة النقاهة» حيث كتب: (رأيتنى فى حى العباسية اتجول فى رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة عين فاتصلت بتليفونها ودعوتها الى مقابلتى عند السبيل، وهناك رحبت بها بقلب مشوق واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الاول، وعندما بلغنا المقهى خف الينا المرحوم المعلم القديم ورحب بنا غير أنه عتب على المرحومة عين طول غيابها، فقالت ان الذى منعها عن الحضور الموت فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة.)
حقاً يا مولانا.. الموت لا يفرق بين الأحبة .. ونحن مريدوك .. نتذكر مشوارك المنير فى وسط ظلام هذا العالم .. آملين كما تمنى عاشور الناجى بطل ملحمة (الحرافيش) أن تفتح الأبواب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.