ليس من قبيل المبالغة إذا قلت إن الأدب العربي لم يعرف كاتبا استثنائيا بحجم نجيب محفوظ , حيث تمكن عبر مشروعه الروائي من أن يواكب التغيرات والتحولات في الرواية الغربية , إذ كان يخوض في كل رواية تجربة جديدة متكاملة, وظل كاتبا قادرا على إثارة الدهشة والأسئلة, فلم تصبه أعراض الكهولة الأدبية وظل شابا ورائدا للتجريب حتى أعماله الأخيرة. و ليس صحيحا أن مكانة محفوظ الأدبية–كما يدعي البعض- تنبع من كونه قد حصل على جائزة نوبل 1988، فقد استطاع أن يلفت الانتباه إليه في الأوساط النقدية العربية منذ مطلع الستينيات. أما على المستوى العالمي فقد كان معروفًا خارج العالم العربي على نطاق واسع في الثمانينيات - قبل حصوله على جائزة نوبل - لطلبة الدراسات العربية، ودراسات الشرق الأوسط كما أشار لذلك إدوارد سعيد وآخرون . وقد ظلمت بعض الكتابات النقدية محفوظ حين اختزلته مثلا في أنه «كاتب البرجوازية الصغيرة»,كما وصفه محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس في كتاب «في الثقافة المصرية» (1955)، أو إنه مجرد «كاتب يساري» ملتزم بقضايا مجتمعه على نحو ما وصفه غالي شكري في كتابه «المنتمي» (1964)، بل كان نموذجا للكاتب المتفرد الذي استطاع أن يتجاوز بوعيه، عبر مراحله الإبداعية المختلفة ليعبر عن تاريخ البشرية، فكانت كتابته تجسيدًا لمسيرة الحياة برمتها. ومن هنا يمكن أن نقول إن مشروع محفوظ قد أحدث نقلة هائلة في الكتابة الروائية و تمكن من أن يخرج بالرواية العربية إلى العالمية .لأنه أطلقها في رحاب الأسئلة الكونية الكبرى .ونقلها من منطقة الحكاية إلى منطقة فلسفية ميتافيزيقية عندما تحولت كتابته إلى أسئلة وجودية,فأضحي أقرب إلى الفيلسوف منه إلى الكاتب. ولعل موهبة محفوظ العظيمة هي ما مكنته من الوقوف على الحدود الإنسانية في طريقة التعبير عن آلام وهموم البشر, فاستطاع أن يكون مقروءا على نطاق واسع في العالم. وليس من المدهش أن يرى الكثير من النقاد العرب في نجيب محفوظ أبا للرواية العربية الحديثة ,حتى إن بعضهم كان يخشى أن يصبح محفوظ عقبة أمام الأجيال التالية من الأدباء بوصفه النموذج المقتدى به فلا يستطيعون تجاوزه ،حتى إن أحد كتاب جيل الستينيات شكا ذات مرة من أن محفوظ قد يصبح حجرعثرة في طريق تطور الرواية العربية . ولكن الأجيال التالية من الروائيين قد أثبتت بطلان هذا التخوف. فلم يتحول محفوظ إلى صنم إبداعي -قط - إلا عند محدودي الموهبة ,أما المبدعون الحقيقون وبخاصة من جيل الشباب فإنهم قد تعاملوا مع إبداع محفوظ من منطلق الجدل أو التجاوز أو حتى التمرد الذي أخذ شكل « قتل الأب» ,خاصة أن كتابة محفوظ نفسه كانت إحدى أيقونات التمرد على القديم, وتنحاز في جوهرها إلى التجريب.