يس من شعور إنسانى يضاهى الفرح فى بهجته. وافتتاح المجرى المائى الجديد لقناة السويس يمثل لحظة فرح طال اشتياق الشعب المصرى إليها. يستحق المصريون بالتأكيد أن يفرحوا، فلطالما كنا نتندر ونتعجب من أن أكبر شعب صانع للدعابة والنكتة فى العالم هو أحد أكثر الشعوب معاناة. لماذا فرح المصريون على ضفاف قناة السويس فى السادس من أغسطس 2015؟ هذا سؤال الفرح الكبير. ماذا عن الأشياء الأخرى؟ هذا سؤال الاستفادة من الفرح. فرح المصريون حين شعروا بأنهم أصحاب إنجاز كبير أعاد إلى الذاكرة المصرية عبارة «من أموالنا بإيد عمالنا» التى شدا بها عبد الحليم حافظ فى رائعته الغنائية عن السد العالى فى الزمن الناصري. يأتى هذا فى وقت ضقنا فيه ذرعاً بما نحن عليه من تراخ وكسل وإهمال، فإذا بنا نعمل لمدة عام كامل على مدار 24 ساعة يومياً على إنجاز مشروع كبير لم يتم تمويله بقرض أو منحة أجنبية بل بأموال المصريين ومدّخرات البسطاء منهم. تباينت الآراء حول تقييم جدوى المشروع، وهذا أمر وارد ومفهوم، فقد سبق أن اختلف رأى المصريين فيما مضى بشأن مشروع السد العالى ومشروع توشكى وغيرهما. وعلينا أن نتقبل مثل هذا الاختلاف خصوصاً إذا كان صادراً من خبراء ثقات بعيداً عن أى حسابات أو منطلقات سياسية. ولربما يمكننا الاستفادة من هذه الآراء والبناء عليها مستقبلاً فى مشروعات مقبلة. لم يحل هذا الاختلاف فى تقييم مشروع تطوير قناة السويس من أن يشعر المصريون بحالة تفاؤل عارم بمستقبل اقتصادى أفضل. هذا التفاؤل يُذكّرنا بموقف المصريين صبيحة ثورة يناير، حين اعتقدوا بطيبة مفرطة أن الأموال المنهوبة خارج مصر سيتم استردادها على الفور وسيكون لكل مواطن نصيب فيها. هذا أمر مفهوم لشعب صابر أكثريته من الأميين والبسطاء، لكنه بالطبع يوجب المصارحة وإفهام الناس بأن العائد الاقتصادى المنتظر لن يتحقق فوراً بل على المدى البعيد وأنه قد لا يكون هائلاً بحجم توقعاتهم ، لكن الإنجاز يبقى خطوة مهمة على طريق التنمية الاقتصادية الشاملة لمنطقة قناة السويس. فرح المصريون ثانياً وهم يرون احتفالاً كبيراً على شاطئ قناة السويس ما كان ليتم دون عودة الأمن والاستقرار إلى ربوع وطن أنهكته الفوضى والعنف والإرهاب على مدى سنوات مضت. وقد شكّلت قضية الأمن والاستقرار أهم انشغالات المصريين إلى درجة أن تتحول موقف الكثير منهم من ثورة 25 يناير كان بسبب غياب الأمن وشيوع الانفلات والبلطجة فى الشارع المصري. كان خوف رب الأسرة العادى على بيته أو متجره أو ورشته أو سلامة أسرته أقوى من حرصه على مطالب ثورة يناير فى الحرية والديموقراطية. وبصرف النظر عن أى قراءة أخرى لكيفية حدوث هذا التحول أو أسبابه الحقيقية فإنه أصبح أمراً واقعاً لا يجدى إنكاره. نعم فضّل المصريون الأمن والستر (ولو فى أبسط صورهما) على الحريات والحقوق السياسية، وجاء الاحتفال الكبير بقناة السويس ليؤكد هذه الحقيقة. فرح المصريون ثالثاً وهم يستعيدون ذاكرة الاعتزاز الوطنى بمشروع لا يثير فقط اهتمام العالم ولكن ينعش ذاكرتهم الوطنية بسبب رمزية قناة السويس فى تاريخهم الحديث. دغدغ الاحتفال مشاعر المصريين. إحدى اللحظات التى لامست المشاعر (من وجهة نظر شخصية) كانت كلمات أغنية حيوا العلم. فقد أصبح لدينا أخيراً أغنية وطنية بمناسبة إنجاز وطنى كبير لا يتم إقحام اسم رئيس الدولة فيها. الرمز فى الأغنية هو العلم المصري، والبطل هو الشعب، والحكاية هى حفر القناة الجديدة. على هامش الفرح الكبير وفى أعقابه بدت المبالغة فى تهويل البعض وتهوين البعض الآخر من حجم الإنجاز هى السمة الغالبة. كانت الكتابات النقدية وسط هذه المبالغات قليلة إن لم تكن نادرة. نحن اليوم فى أمس الحاجة لمثل هذه الكتابات وسط إعلام الرأى الواحد. فهذا أمر طبيعى بل وصحى تعرفه المجتمعات المتقدمة الواثقة.. فلماذا نجعل منه فى بلادنا مصدر شقاق أو تشكيك أو تخوين؟ نشوة الفرح الكبير بالإنجاز الذى تحقق يجب ألا تنسينا أوضاعاً حقوقية واجتماعية تحتاج فى معالجتها إلى قرار جرىء بجرأة القرار فى تحقيق إنجاز قناة السويس. هناك ملفات لا يتطلب حسمها سوى ساعات قليلة مقارنة بما تم إنجازه على مدى عام كامل ساعةً بساعة. هذا القول ليس بقصد إطفاء أنوار الفرح ولكن سعياً لأن تمتد أضواء الفرح إلى مناطق لا تخلو فى بر مصر من العتمة والظلام. نحن اليوم أمام لحظة مناسبة تماماً لتحريك ملف الحريات فى وقت تتزايد فيه أعداد المعتقلين والمسجونين الذين يلقون حتفهم فى حراسة العدالة عن مرض أو عنت أو إهمال. فى الأسبوع الماضى وحده مات ثلاثة معتقلين فى أماكن حبسهم. معتقلون آخرون يعانون العدالة البطيئة التى كادت تتحول فى ذاتها وبحكم الأمر الواقع إلى عقوبة. فى الملف الاجتماعى آيضاً ما زالت قضية العدالة الاجتماعية تتعثر بفعل قوانين جديدة تزيد من وطأة ومعاناة الكثيرين. فى ملف النزاهة ومكافحة الفساد الطريق معروف لكنه مهجور، والخطوة الأولى تبدأ بقراءة (وإرادة) لتقارير الجهاز المركزى للمحاسبات. فلو أن تقارير هذا الجهاز وجدت طريقها إلى التنفيذ لأصبحنا أمام إنجاز لا يقل عن إنجاز قناة السويس. ألا يمثل الهدر الاقتصادى الناشئ عن الفساد بكل صوره وأشكاله رقماً بالمليارات لا يقل عن العائد الجديد المنتظر من قناة السويس؟ مجرد سؤال لا يقلل من الفرحة القائمة والمستحقة فى بر مصر. -------------- قالوا.. أن نحب من يمدحنا أكثر ممن ينصحنا.. تلك هى المشكلة! لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم