يحدث في هذا الزمان حوارات ومناقشات, تطرح العديد من الآراء في قضايا تحسين أحوال البلاد, يصاحبها أحيانا وقفات واحتجاجات, فيها السمين وفيها الغث ومنها البسيط, تعبر أحيانا بالموضوعية والعقلانية والعلم, وأحيانا أخري دون ذلك, تقدم الحقائق القديمة والمزمنة والساطعة بذات السيناريوهات المعادة والمكررة. ومنها الجاد والجديد علي الساحة, كما تطالعنا الأرقام والإحصاءات عن أحوال البلاد بالتحليل والتعقيب المنهجي بموضوعية, وفيها الكلام والشعارات التي ما نزل الله بها من سلطان, في هذه الحوارات والمناقشات الاتهامات بالكلام والشائعات, وفيها التحقيقات بالدليل والبرهان وما تكشف عنه المحاكمات من الفضائح والمستور, وكل هذا الذي يحدث في البلاد, ليس امرا وقتيا أو عارضا, وإنما نراه يتكرر كل يوم, بذات المواقف والردود وبنفس العبارات والألفاظ, ثم ما يلبث أن تتكرر ذات الوقائع أو قريبة منها, والناس تندهش وتضرب كفا بكف, وتتساءل الي متي يبقي الحال علي ما هو عليه من تكرار الأفعال وكثرة الكلام؟!.. فهل علي المتضرر أن يسكت كظما أم أن له أن يفعل ما يشاء؟! ألم يعد هناك من سبيل لاتباع الموعظة الحسنة والإصلاح المبين.. أو تصحيح المسار.. فماذا بعد كل هذا الكلام؟! وسر الدهشة والتساؤل أنه في كل مناسبة يتكلم الخبراء وسط هذا الزخم العظيم.. ويقول لنا الحكماء ويكتب العلماء وينصح الأمناء, ومع ذلك يبقي الحال علي ما هو عليه وتعود ذات الأفعال والتصرفات.. ومن الأمثال علي بقاء الحال, رغم وفرة الكلام وتعدد النصائح وكثرة الخطاب, ورغم إجراء التحقيقات وإذاعة المحاكمات, وما يتكرر كل عام من عرض تقارير رقابية عن أعمال الحكومة وحساباتها السنوية, تعرض بحكم اللزوم علي المجالس النيابية.. يقدمها الجهاز المركزي للمحاسبات أو غيره.. بملاحظات وانتقادات قاتلة, منها مخالفات قانونية ومنها اعتداء علي أموال الصناديق وغير ذلك الكثير.. ويعلق النواب علي اختلاف انتماءاتهم, دفاعا أو هجوما, وترد الحكومة مبررة تصرفاتها وربما اخطاءها, قد تنكر وتهاجم وقد تكذب أو تتجمل, ويجري تبادل الاتهامات وتقديم الوصايا والنصائح من الجهاز أو غيره من الخبراء والعلماء.. تتناولها الصحافة والإعلام بحكم مسئولياتها الدستورية في التعبير وتوجيه الرأي العام وصياغته, ثم يتداولها الرأي العام ذاته, وكلها علامات صحية وحوارات ديمقراطية, لكن المشكلة, أنها تعود فتتكرر كل عام بذات السيناريو والإخراج.. لا الحكومة تسمع النصح أو تقتنع به, ولا تعترف بما قيل ضدها أو نسب اليها, ولا الجهاز يقتنع بكلام الحكومة أو يكف عن الحديث, ولا المجالس النيابية تغير حساباتها أو منهجها حتي ولو وجهت اللوم وشددت الخطاب, ويظل الحال باقيا علي ما هو عليه رغم كثرة الحوارات ولغة الكلام!! وقرب هذا المعني التقارير المنسية التي تعد بمعرفة الخبراء والمتخصصين من المجالس القومية والمؤسسات الرقابية وغيرها, بعد جهد وفحص, ومع ذلك تظل حبيسة الإدراج, لا تعرض علي المجالس النيابية, من ذلك تقارير أحوال حقوق الإنسان, الذي يناقش في الخارج ويعلن بعدها ما أخذنا به ووافقنا عليه, وما لم نأخذ به واعترضنا عليه, وتظل التقارير عنها في بلدنا مصر منسية لم نناقشها بعد, رغم إعدادها ونشرها كل عام منذ إنشاء المجلس القومي لحقوق الإنسان.. ورغم ان هذا المجلس منسوب عضويا إلي مجلس الشوري بصفته مجلسا نيابيا يمثل الشعب كله, وكذلك تقارير المؤسسات الصحفية القومية.. التي يتعين عرضها علي المجالس.. وتقارير اللجان القومية مثل لجنة الشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد كل ذلك وغيره ما يعرض.. وما لا يعرض.. يدور الحوار بشأنه, ويكثر الكلام فيه وتقدم النصائح حوله, الناس تقرأ والحكومة تسمع ويكتب الخبراء ويكثر الكلام ومع ذلك تتكرر الأفعال.. ويبقي الحال علي ماهو عليه رغم كثرة الكلام وتعدد الحوارات!! كذلك يتكلم الخبراء.. ويحذر الحكماء.. وينزعج الناس.. وهم يقرؤون الإحصاءات والأرقام, عن نسب الفقر في المجتمع عندما يجدونها متناقضة, بين قائل بزيادة نسبة الفقر ارتفاعا علي مر السنين وكأن التقدم إلي الخلف وبين من يقول لنا أنها انخفضت بنسب كبيرة بسبب زيادة التنمية وارتفاع معدلات النمو وتقدم الأحوال الاجتماعية والمعيشية بين الناس, والقائلون بهذا أو ذاك رغم التناقض البين هم جميعا في مواقع السلطة والمسئولية, حيث تتعدد مصادر البيان والإحصاء, ويكذب كل منهم الآخر, ووسط هذا الخلاف يبالغ البعض ويزعم بأنها أكثر من ذلك بكثير, واحتار الناس من يصدقون؟! رغم أن الواقع يشهد لأحدهم علي حساب الآخر, ومع ذلك فالناس ظلت في حيرة بشأن هذا التناقض في قضية تستند الي الإحصاءات ولغة الأرقام.. ويزداد القلق, لأنها مازالت ساطعة بين الناس.. والحديث فيها منذ زمن بعيد, ومثل هذه القضية مثل قضايا أخري عديدة, منها الأمية والتعليم والعشوائيات وغيرها, ويظل الحديث عن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة باعتبار ذلك كله جزءا من الأهداف والبرامج المستهدفة, ومع ذلك تظل الحقائق تائهة أمام الرأي العام رغم كل ما يقال ويعاد ويزداد, ليبقي الحال علي ما هو عليه رغم كثرة الكلام!! كذلك يعترف الجميع باتساع دائرة الحريات, وهي حق للناس, ويقولون كذلك بانطلاق حرية الإعلام والتعبير التزاما بحق المعرفة والعلم, لكنها زادت حتي بلغت حد الاتهامات والخروج عن دائرة المباح أحيانا, وتصاعدت الحوارات في برامج الTalkshow صباح مساء, وتسابقت فيما بينها جذبا وإثارة في معظمها, وكل يحقق ذاته وهويته, وقد يسعي لتحقيق أغراض في نفس يعقوب, أو لتصفية حسابات شخصية, وتظل المسئولية الاجتماعية لوسائل الإعلام منسية, والحكمة منها وفلسفتها في القوانين والدستور والقانون غائبة.. وقد كتب لنا العقلاء والحكماء.. من أبناء المهنة أنفسهم.. أصحاب العقول ودعاة التنوير والإصلاح.. واعترفوا أمام الرأي العام في الإعلام القومي والخاص بكافة صوره, اعترفوا لنا بحقيقة ما يجري وأوصافه.. وتصاعدت الحالة شدة وعدوانا, ولم يسكت القضاء.. فصدرت البيانات عن مجالس القضاء, ثم ما لبثت أن شددت لغة الخطاب.. بعثت بها كتابة الي كل من يعنيه الأمر, وكل ذلك منذ أواخر التسعينات وما بعدها, حتي امتدت فصدرت أوامر قضائية في بعض القضايا.. وأحكام ضد التجاوز واللامعقول.. بلغت حد تغليظ العقوبات وحظر النشر في بعض الأحوال, بل ووقف تراخيص بعض الصحف وإيقاف بعض البرامج, ولكن الله سلم.. فلم تغلق قناة.. أو يقصف قلم!! ويظل السؤال.. فماذا بعد كل هذا الكلام؟! وفي باب السلطات مثلا, سواء كانت مطلقة أو تقديرية, منصوصا عليها صراحة أم كانت منسية, يكشف لنا الزمن عن الغرائب عند التصرف في أراضي البلاد بغرض الاستصلاح والاستزراع وتحقيق التنمية وخلق فرص العمل, وتحت هذا الشعار تصدر الأوامر والتفويضات علي بياض, وتتم ممارسة السلطات لتقدم العطايا والمنح الي ذوي القربي والأصدقاء أو أصحاب النفوذ.. بغير رقيب أو حسيب, فلا القوانين السارية قيدت السلطة, ولا أصحاب السلطة قيدوا أنفسهم حماية لهم, بوضع القواعد والأحكام, انحيازا لموضوعية والتجرد, وإعمالا لتكافؤ الفرص والمساواة ومبادئ الشفافية والعلانية في الحقوق والمزايا والخدمات, فالتصرف في الأراضي مثلا حتي ولو كانت صحراء جرداء وعلي طول سواحل البلاد, حتي امتدت الي المناطق التي تمثل حصنا أمنينا للبلاد.. تخلو القوانين من وضع قواعد صريحة وواضحة في تحديد قواعد البيع والشراء أو التخصيص والاستخدامات وسلطة تقرير المنافع والحقوق, ولهذا ظلت في دائرة المنح والعطايا, وبالقانون منذ أكثر من خمسين عاما ويزيد!! والكل يقر ويعترف بضرورة الاستصلاح والاستزراع, وحتمية التنمية والتعمير والاستثمار, كما يعترف الجميع كذلك, بما كان عليه حال الأراضي عند التخصيص, وقد يكون ذلك بحسن القصد والحرص علي تنمية الاستصلاح والاستزراع, لكن الدنيا قد تغيرت واختلفت الأحوال, ومع ذلك ظل الحال علي ما هو عليه منذ الماضي البعيد.. بعد أن أفرز أمام الرأي العام صورا شاذة من تبديد ثروات البلاد.. مجاملة أو نفاقا.. يتصرف فيها من لا يملك الي من لا يستحق, وبقي الحال علي ما هو عليه.. رغم كل الاعتراضات والصرخات.. وأحيانا التحقيقات والأحكام بإدانة الرشوة والكسب غير المشروع التي تطالعنا بها الصحافة والإعلام, ومع ذلك مازالت الصور تتكرر رغم الكتابات وكثرة الكلام.. ليبقي الحال علي ما هو عليه!! وقديما كتب لنا الخبراء والباحثون عن الآثار السيئة للثراء العشوائي بغير جهد أو عناء, ودون تنمية حقيقية أو خلق فرص العمل, وما تفرزه من نماذج في المجتمع تحقق الأرباح بالملايين وبالمليارات.. وقد بدد جزء كبير منها علي المظاهر والإنفاق والقصور والليالي الملاح.. فتسببت تلك الثروات العشوائية في الفساد والإفساد بين السلطات وبعضها البعض, وبينها وبين الناس, وزرعت الأحقاد وخلقت الإحباط واليأس في نفوس الناس!! فهل يظل الحال طويلا علي ما هو عليه رغم كثرة الكلام.. وكثرة السؤال وبمعني آخر فماذا بعد كل هذا الكلام!!