ويسألونك عن الخطاب الديني.. قل هو الكلأ المباح.. والحرم المستباح.. الذى يجوس خلاله أهل الجدل العقيم، هواة الجلبة والضوضاء والصخب والصياح.. الذين يتبعهم الغاوون وهم فى كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون.. ومع أن الخطاب الدينى هو شأن أهل الذكر المتخصصين.. من العلماء والدعاة النجباء.. فقد اقتحم ساحته من يهرفون بما لا يعرفون.. من أشباه المفكرين وأنصاف المثقفين والمتعلمين الذين يتظاهرون بمظهر الغيورين على الدين ويخدعون البسطاء والعوام والأميين.. وبلغت بهم الجرأة إلى حد أن ينصبوا أنفسهم للخطاب الدينى مجددين.. «وان منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون» (78 آل عمران).. يتخذون من الدين تجارتهم وبضاعتهم البائرة المزجاة.. يحاولون ترويجها بين البسطاء المطحونين الذين أثقلت كواهلهم هموم الحياة.. غير مكترثين بما تواجهه مصر من أزمات كبيرة وتحديات جسام.. متجاهلين ما تخوضه من حرب ضروس مع الخونة الفجرة أرباب الإرهاب محترفى الإجرام.. ولم يبق أمام هؤلاء وأولئك ما يشغلهم ويحقق لهم سوء مآربهم سوى ممارسة ترف التطفل على تجديد الخطاب الديني.. فى محاولة بائسة لإثبات وجودهم والإعلان عن أنفسهم.. واعتلاء المنابر المهترئة للإعلام الهزيل.. الذى لا هم له غير إلهاء الناس عن العمل والإنتاج وصرفهم عن كل أمر جليل.. وتحويل النشء والشباب عن صحيح الدين والمسلك القويم.. وجذبهم إلى مواطن الشذوذ والانحراف والابتذال والإسفاف.. والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. وإنني، وقد درست الشريعة الإسلامية بتعمق فى رحاب العلماء الأجلاء الأعلام من أمثال الشيخ عبدالوهاب خلاف والشيخ محمد أبوزهرة والشيخ على الخفيف والدكتور محمد يوسف موسي.. وشرفت بعضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لأكثر من ثلاثين عاما معظمهما فى لجنة التعريف بالإسلام.. وعملت مستشارا للشئون الدينية والاجتماعية والأوقاف بمجلس الشعب لعشرين عاما.. وشاركت عام 2003 فى إعداد تقرير برلمانى مهم عن تجديد الخطاب الديني.. إلا أننى رغم ذلك لا أجرؤ على الخوض فى أمر تجديد الخطاب من حيث الموضوع.. وإنما اقتصر فحسب على تناوله من حيث الشكل.. وأتصور أن المقصود بالتجديد هو الفكر الإسلامى فى غير ثوابت الدين بحيث يصبح هذا الفكر مواكبا ومتناسبا مع مستجدات ومستحدثات الزمان. وإذا كان الرئيس القائد قد ألقى بمسئولية تجديد الفكر، وبث الخطاب الذى يحتويه على عاتق المؤسسة الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف.. فإن العدل والإنصاف يقتضيان ألا نحمل المؤسسة الدينية وحدها كامل المسئولية.. لأنها وإن كانت مختصة وحدها بمهمة تجديد الفكر.. فإنها ليست وحدها المنوط بها نقل هذا الفكر.. صحيح أن المؤسسة الدينية تزخر بجيش كبير من العلماء والفقهاء والوعاظ والأئمة والخطباء.. يحسنون توجيه الخطاب الدينى فى كل مكان.. وخاصة من فوق منابر مائة ألف مسجد منتشرة فى المدائن والقرى وفى كل البقاع.. ولكن تشاركهم هذه المسئولية كثير من المؤسسات التى توجه الخطاب.. إما إيجابا فى بعض الأحيان وإما سلبا فى معظم الأوقات.. فالمؤسسة التعليمية المنوط بها تربية النشء والشباب تخلو مناهجها أو تكاد من التربية الدينية والأخلاقية مخالفة بذلك أحكام الدستور المصرى الذى يلزمها بذلك فى مادتيه العاشرة والرابعة والعشرين.. والمؤسستان الثقافية والشبابية رغم أن مهمتهما ترقية الوجدان وتجويد بناء الإنسان إلا أنهما بالخطاب الدينى لا يكترثان.. أما المؤسسة الإعلامية فليتها اكتفت مثل المؤسسات السابقة بالسلبية..ولكنها جنحت إلى الايجابية فى مقاومة الخطاب الدينى.. بل وتمادت فى غيها لتوجه إلى الأمة خطابها اللادينى.. وأخطر أدوات الخطاب اللادينى إعلاميا..هو «التلفاز» الذى يربى الصغار ومعهم الكبار.. ويقتحم علينا بيوتنا طوال ساعات الليل والنهار دون استئذان أو اعتذار.. وإذ يقضى العلماء والدعاة والوعاظ والخطباء آلاف الساعات فى الدعوة إلى الإنتاج والعمل.. والالتزام بالخلق الكريم والمسلك القويم يأتى «التلفاز» فى نصف ساعة وربما فى دقائق معدودات ليهدم كل ما بذله الدعاة الهداة. ويبقى الخطاب الدينى حائرا بين دعاة وهداة التجديد.. وهواة وحماة التبديد. عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لمزيد من مقالات المستشار عبدالعاطي الشافعي