العقل السلفي- كما سبق أن أوضحت- لا يكف عن إقناع من حوله بالنظر إلي الوراء مطلقا، وذلك بمعني يجعل من التقدم إلي الأمام عودة إلي الخلف، والنهضة مجرد إحياء أو استعادة لما سبق أن كان في العصر الذهبي دون اعتبار حقيقي لتغير شروط الزمان والمكان، مع إيمان عميق بأن المستقبل الواعد هو استعادة فعلية لما حدث في الماضي، فالمستقبل الواعد حقا فيما يراه العقل السلفي- يقع في الماضي مجازا وحقيقة، ما ظل هذا المستقبل مقترنا بمفهوم الزمن الدوار أو الزمن المنحدر. في الحالة الأولي، يغدو المستقبل عودة بدولاب الكون إلي ما سبق أن كان علي نقطة متخيلة من محيط الزمن الدوار. وفي الحالة الثانية، يغدو المستقبل محاكاة مرآوية للنقطة المضيئة في العصر الذهبي الذي سبق أن وجد قبل انحدار الزمن، وفي الحالتين يقع المستقبل في الماضي أو يغدو صورة من صوره، وهي صورة متأولة تصاغ بأحلام الحاضر المحبط الذي يتوهم أنه يجد خلاصه في عصر ذهبي يخايله بكمال لم يكن موجودا بالفعل. ولذلك فكل ما يتخيله العقل السلفي عن العصر الذهبي إنما هو من صنعه وتخييله بالدرجة الأولي، فالتاريخ يؤكد لنا أن هذا العصر الذهبي لم يكن علي هذا النحو من الكمال والنورانية اللذين يخايلنا بهما العقل السلفي فرارا من مواجهة إحباطات الحاضر الفعلي، وإدراك شروطه المغايرة. إنه لأمر مستحيل أن يقع المستقبل في الماضي أو يغدو صورة من صوره، لأن الزمن لا يعود إلي الوراء إلا علي مستوي الوهم أو التخييل، وإنما يتقدم الزمن إلي الأمام شئنا أم أبينا، وكل حركة للزمن إلي الأمام هي حركة تراكم يضيف بها اللاحق إلي السابق بما يؤدي إلي تقدم المعرفة، وصعود سلم الحضارة التي تتنقل ما بين أقطار المعمورة الإنسانية، وذلك علي نحو تضيف به كل أمة إلي ما أخذته عن غيرها بما يؤدي إلي تقدم هذه الأمة من ناحية، وإضافتها إلي ما سبقها في سلم التقدم الإنساني العام من ناحية موازية. وقد أشاع التيار العقلاني في تراثنا العربي الإسلامي أفكارا مثل هذه ظلت موجودة عند المعتزلة من أمثال الجاحظ والنَّظام والقاضي عبد الجبار، من ناحية أولي، وعند العلماء من أمثال أبي زكريا الرازي وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم وغيرهم، من ناحية ثانية، وعند فلاسفة الإسلام من أمثال الكندي وابن سينا وابن رشد، وأمثالهم من ناحية أخيرة. وقد ترتب علي هذا الفهم، الإيمان بانتقال المعرفة بين الحضارات، وإضافة الحضارة اللاحقة إلي الحضارة السابقة بعد الأخذ عنها. ويعني الإيمان بتنقل المعرفة وتطورها ما بين الحضارات، أمرين. أولهما: تأسيس نزعة إنسانية تتقبل الآخر، وتعترف به بقدر ما يمكن أن تفيد منه. وقد توقف المرحوم محمد أركون عند مسكويه طويلا باعتباره ممثلا للنزعة الإنسانية في الفكر العربي. أما الأمر الثاني، فيتصل بتبرير هذه النزعة، ومن ثم تبرير التبادل المعرفي بين حضارات المعمورة الإنسانية في درجات سلم تقدمها المختلفة، ولذلك ذهب الكندي إلي أن تتميم النوع الإنساني هو الغاية التي يسعي إليها البشر، وأن هذه الغاية تشترك في تحقيقها جميع الأمم وتتداولها واحدة إثر الأخري في سعي البشرية المتصل لتحقيق هذا التتميم الذي يضيف فيه اللاحق إلي السابق، وذلك بما يجعل حركة التاريخ صاعدة دائما، وهذا ما نص عليه الكندي الفيلسوف صراحة في رسالة إلي المعتصم بالله عن زالفلسفة الأوليس حين أعلن أن من أوجب الحق ألا نذم من كان أحد أسباب منافعنا، وأن غيرنا شركاء لنا فيما نفيده من ثمار فكرهم، تلك الثمار التي تصير لنا سبلا وآلات مؤدية إلي علم كثير مما قصروا عن نيل حقيقته. ويمضي الكندي قائلا إنه لا ينبغي أن نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتي، وإن أتي من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولي بطالب الحق من الحق... ولا أحد بخس الحق، بل كل يشرفه الحق، ويحسن بنا ذ إذا كنا حراصا علي تتميم النوع الإنساني- أن نعي ما نأخذ وأن نضيف إليه، وأن نتمم ما لم يقل فيه الآخرون علي مجري عادة لساننا وسنة زماننا وبقدر طاقاتنا. ولا يعني كلام الكندي إلا أن المعرفة البشرية للإنسانية هي في تقدم مستمر بسبب حرص كل أمة علي تتميم النوع الإنساني الذي هو معني آخر من معاني التقدم الإنساني؛ فالأفضل ينسخ بما هو أفضل منه، وأن علينا لذلك أن نقبل هذا الأفضل من أي جانب كان، وأي مصدر يكون. وهذا بالضبط ما أكده ابن رشد في كتابه زفصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصالس بعد الكندي بقرنين، خصوصا حين أكد أن إفادة اللاحق من زالآخرس السابق، ليست بدعة منذ الصدر الأول من الإسلام، وأن علي المسلم أن يستعين علي ما هو بسبيله من حقول المعرفة المختلفة بما قاله من تقدمه أو عاصره. وسواء كان ذلك زالآخرس مشاركا أو غير مشارك في الدين، فإن الآلة التي تصح بها التزكية هي التي تتحقق فيها شروط الصحة. وهذا ما لا يؤمن به العقل السلفي بأي حال من الأحوال، فكل هذه الأفكار المستنيرة عن التقدم التي أسسها التيار العقلاني، في الميراث الحضاري الإسلامي، وقف ضدها التيار السلفي في تسلط اتباعيته التي اتخذت طابع العنف، في مطاردة ممثلي التيار العقلاني، ابتداء من المعتزلة وليس انتهاء بابن رشد. وقد استند التيار السلفي في موقفه ذلك إلي عصبية عرقية بالمعني البغيض للعصبية التي اقترنت بالدعوة إلي الانغلاق علي ما في التراث العربي وحده، وعدم الاعتداد بما قاله غير العرب، خصوصا أنصار الفلسفة الذين أخذوا عن فلاسفة اليونان ما يضر ولا ينفع. وقد تزايد العداء للآخر إلي حد عصابي قمعي، خصوصا بعد أن أخذ هذا الآخر صور الصليبيين والمغول والتتار. ولم يقترن هذا السياق بقمع التيار العقلاني وممثليه فحسب، بل جاوزه إلي تعزير( تعذيب) المشتغلين بالفلسفة، وحرق كتبها، بل الكتب التي تتضمن شيئا من التفلسف في ميادين القاهرة وغيرها من ميادين العواصم الإسلامية منذ القرن السابع للهجرة. ومنذ أن حدث التحالف بين سلاطين الجور وفقهاء السلاطين من السلفيين الذين لم يتخلوا قط عن مبدأ: لا يجوز الثورة علي الحاكم وإن جار، تقلص التيار العقلاني التجريبي في العالم العربي الإسلامي، رغم محاولته الفرار إلي الأطراف، فكانت فلسفة ابن رشد هي الذروة التي بدأت منها النهضة الأوربية، بعد أن سقطت الرشدوية في العالم الإسلامي نتيجة قمع النزعات السلفية. وهكذا قرأنا لابن صلاح الشهرزوري المتوفي سنة 643ه: زالفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستولي عليه الشيطانس. ولقد كانت مثل هذه الكلمات دافعا لوزير التعليم في عهد الإخوان الكارثي لكي يلغي الفلسفة من برامج التربية والتعليم، أو ينفيها بتحويلها إلي مادة اختيارية، كي يقضي علي أي إمكان لعودة التيار العقلاني بفكره النقدي الذي سرعان ما يكشف عن أوجه التخلف فيما يراه العقل السلفي. لمزيد من مقالات جابر عصفور