وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء يفتتحان أعمال تطوير مسجد الصحابة بشرم الشيخ    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب اليوم السبت 20 إبريل بالصاغة بعد الارتفاع الجديد    كوريا الشمالية تطلق نوعا جديدا من الصواريخ وتختبر "رأسا حربيا كبيرا جدا"    كانسيلو يعلق على خروج برشلونة من تشامبيونزليج وآخر الاستعدادات لمواجهة ريال مدريد    أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين وتوك توك بطريق المنصورة بالدقهلية    آمال ماهر تشدو برائعة كوكب الشرق"ألف ليلة وليلة "والجمهور يرفض انتهاء الحفل (فيديو)    طريقة عمل تارت الجيلي للشيف نجلاء الشرشابي    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    تخفيف الأحمال فى «أسبوع الآلام»    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    300 جنيها .. مفاجأة حول أسعار أنابيب الغاز والبنزين في مصر    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    انفجار في قاعدة كالسوم في بابل العراقية تسبب في قتل شخص وإصابة آخرين    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي    إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب"اللا مسؤول"    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    حزب "المصريين" يكرم 200 طفل في مسابقة «معًا نصوم» بالبحر الأحمر    الخطيب ولبيب في حفل زفاف "شريف" نجل أشرف قاسم (صور)    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    صفقة المانية تنعش خزائن باريس سان جيرمان    منير أديب: أغلب التنظيمات المسلحة خرجت من رحم جماعة الإخوان الإرهابية.. فيديو    حالة الطقس اليوم.. حار نهارًا والعظمى في القاهرة 33 درجة    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    فحص السيارات وتجديد الرخصة.. ماهى خدمات وحدات المرور المميزة فى المولات    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    تعرف على موعد انخفاض سعر الخبز.. الحكومة أظهرت "العين الحمراء" للمخابز    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    بفستان لافت| ياسمين صبري تبهر متابعيها بهذه الإطلالة    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    عمرو أديب يطالب يكشف أسباب بيع طائرات «مصر للطيران» (فيديو)    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    عاجل - فصائل عراقية تعلن استهداف قاعدة عوبدا الجوية التابعة لجيش الاحتلال بالمسيرات    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصريون وقناتهم
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 08 - 2015

منذ فترة وجيزة، كتبت على حسابي الإلكتروني: «أنا إنسانة محظوظة لأني حضرت حدثين مهمين في تاريخ مصر الحديث، الأول كان إعلان جمال عبد الناصر قراره الشهير بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، شركة مساهمة مصرية، والحدث الثاني هو أنني عايشت افتتاح مشروع توسيع القناة وإستكمال تفريعتها الجديدة». حدثان مهمان وطنيان سعيدان في حياتي الممتدة لبضعة عقود.
حدثان متعلقان بذلك الشريان المائي الممتد بين بحرين والذي إستمر يخدم الإنسانية لأكثر من قرن ونصف القرن من الزمان، من خلال توفير الأمن والأمان لتجارتها العالمية وتسهيلها.

في السادس والعشرين من يوليو عام 1956، كنت قد فوجئت كما فوجيء الشعب المصري، ومعه العالم، بإعلان جمال عبد الناصر قراره الشهير في خطاب جماهيري حضره جمهور حاشد في ميدان المنشية في تلك «المغربية» الشهيرة والسعيدة. ومع الإعلان عن قرار التأميم صرح عبد الناصر لأول مرة بأن صفقة الأسلحة التي حصل عليها من الكتلة الاشتراكية لم تكن تشيكية وإنما كانت روسية. وهو تصريح مهم التقطه الغرب وفهم معناه السياسي.
وكنت حينذاك صحفية تحت التمرين في مجلة الجيل الجديد التي كانت تصدر عن دار أخبار اليوم وأنتظر مرور الشهور القليلة المتبقية لي للحصول على الشهادة الجامعية التي ستحولني من محررة تحت التمرين إلى صحفية مقيدة في جدول هذه النقابة التي احببتها وتابعتها ولم أكن أجرؤ حتى ذلك الوقت على دخول مبناها، نقابة الصحفيين. يومها أتذكر أني اتصلت بأسرتي لأبلغها أني سأتأخر بعض الوقت بسبب هذا الحدث الذي «جلجل» مصر وبات، في دقائق، حديث الناس في الشوارع وعلى المقاهي وفي كل البيوت. الحدث الذي، منذ لحظة إعلانه، هز العالم وتفرغت وكالات الأنباء لمتابعة ردود أفعاله السياسية المتتالية واحتل مساحات ومساحات من صفحات الجرائد. لم أرد أن أترك مناخ المتابعة لأعود إلى المنزل وأنفرد بالمذياع فقررت التأخر لبعض الوقت.
رد جدي على محادثتي التليفونية وسألني: « ليه هو فيه إيه؟» فأجابته أن عبد الناصر أمم شركة قناة السويس. فرد علي، الجد الأمي الذي لم يكن يعرف القراءة والكتابة والذي كان ينفق علينا من محلي عطارته المتواضعين، أحدهما في شارع الدرب الأحمر بجانب بوابة المتولي ومنطقة الخيامية القديمة والثاني في حي الناصرية بالسيدة زينب، الجد الأمي الذي لم يعارض، في ذلك الزمان، أن تلتحق حفيدته بالجامعة الأمريكية لاستكمال دراستها الجامعية، وبعد أن سمع خبر التأميم قائلا « والله راجل ولا كل الرجالة». عبارة مصرية دارجة بسيطة، ولكني، اليوم، أفسرها على أنها تعبير عن البناء الفكري البسيط ولكن الضارب في العمق والتاريخ لرجال ونساء مصر في ذلك اليوم.
وقد لا يستطيع غير المصريين فهم تلك العلاقة الغريبة التي تربط الإنسان المصري بمجموعة أمور أو حقائق أو قيم أو أحداث أو أبنية أو كيانات مثل قناة السويس والجيش المصري وجهاز الدولة ثم أخيرا إنضم إلى تلك المجموعة المحببة إلى الشعب المصري، السد العالي. وعادة ما أخص، ذلك الشيء المهم، الذي هو جهاز الدولة، الذي يستمر المواطن المصري ينقده ويسبه ويتهمه بالفساد وتعطيل مصالحه ويلعن بيروقراطيته وبيروقراطية موظفيه ولكنه لا يستطيع الإستغناء أو الإبتعاد عنه. ويوم أن ينهي إبنه أو ابنته المرحلة التعليمية التي تؤهلهما للعمل، يبدأ ذلك المواطن فى السعي لإلحاق الإثنين أو أحدهما في وظيفة، يتجه أول ما يتجه إلى ذلك الجهاز الحكومي الذي «نزل» فيه سبا ونقدا حتى لو وقع السب وإنتهى منذ دقائق مضت.
ولكن ضمن كل هذه الحقائق أو الأبنية أو المؤسسات تأتي «قناة السويس» هي العشق الدفين للمصريين ومقدمة كل الإنجازات بالنسبة لهم. هل لأنها تدر عليهم الدولارات التي تواجه مصالح حياتهم اليومية؟ أم لأنها جميلة لطيفة تجري فيها مياه بحرين في إنسياب رقيق وتمتد عليها ثلاث مدن، السويس والإسماعيلية وبور سعيد؟، المدن الثلاث بسكانها الذين تشعر دائما وانت أمامهم أنك أمام سكان يملكون مزاجا خاصا إذا فرحوا وإذا غضبوا وإذا «أبدوا» رضاهم على أحد أو إذا « تمردوا» عليه. جزء من الشعب المصري، حمول وصبور مرح وابن نكتة وجدع و»مهزار» لا يحب «النكد» ويعرف تماما قيمة القناة التي يعيش على ضفافها والتى لا يذكرونها كقناة وإنما يسموها »القنال«.
لذلك تيقنت يوم أن أعلن الرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسي قراره الهزلي بفرض حالة حظر التجوال على سكان المدن الثلاثة، تيقنت لحظتها أنه وجماعته لا يعرفان مصر ولا شعبها. لا يعرفان طبيعة سكان المدن الثلاثة النابعة من تاريخهم القريب فما بالنا بسكان مصر كلها. يومها أجريت تدخلا تليفونيا مع الإعلامية دينا عبد الرحمن وقلت علنيا ما سمح به ضميري الوطني، خاصة بعد أن حول شعب المنطقة بمدنها الثلاثة القرار إلى أجدع مسرحية هزلية، ولا مسرحيات موليير الفرنسي أو نجيب الريحاني المصري أو دريد لحام السوري. ولكنهم كانوا دائما على إستعداد لمقاومة الاحتلال مهما يكن.
كما أنني لم أتعجب عندما هرع المصريون للإسهام في تمويل المشروع الضخم لحفر التفريعة الجديدة للقناة. توقعت الإقبال ولكن ليس بهذه السرعة. ولكني لم اشك لحظة في ذكاء المصريين وفطنتهم وقدرتهم على حماية وتنمية قناتهم التي إستمروا يدفعون فيها عرقا وأرواحا ودماء وترحالا من أجل أن ينتهي مشروع الحفر عام 1869، تلك «القنال» التي تربط بين البحرين. كما أنهم لم يبخلوا عليها من أجل أن تعود إلى أحضان مصر عام 1956 ثم لم يبخلوا عليها من أجل أن تستمر مفتوحة تستقبل سفينة وتودع الثانية موفرة لهما ولتجارة العالم الأمن والآمان.
وكم من حوارات دارت بيني وأصدقاء ليس لهم موقفي السياسي هذا، حول هذا الإقبال الذي أعاده دائما هؤلاء الأصدقاء إلى إرتفاع سعر الفائدة. وكنت أختلف معهم. وإختلفت معهم أكثر وأكثر عندما دار بيني وصديقة تعمل في مجال حوار حيث يوجد أكبر وعاء إدخاري للمصريين، وهي دفاتر التوفير، عندما قالت لي الصديقة إن هذا المبلغ كان يمكن أن يجمع في أقل من الوقت الذي جمع فيه إذا ما كانت الدولة سمحت بدخول مدخري صناديق التوفير التي يلجأ صغار المدخرين إليها في الريف تحديدا.
والذي عاش بمصر في مرحلة ما قبل عام 1952 وسمع من أقاربه الكثير من «اللغو» السياسي والأحاديث المتناثرة، بين أفراد وموظفي وطلبة أبناء شرائح الطبقة الوسطي، التي كانت دائرة في هذا الوقت يمكنه معرفة كيف أن قناة السويس هذه أو «القنال» ،كما يطلق عليها سكان إقليمها، كانت كالميلودراما المصرية. يتحدث عنها الآباء مع أصدقائهم على أنها الملكية المصرية المنزوعة أو المسلوبة أو المسروقة، وكانوا يقولون على مسامعنا ونحن أطفالا ثم صبية،أن الذي يحمي بقاءها مسروقة ومنهوبة هو ذلك الوجود الاستعماري المتبقي من الإحتلال البريطاني عام 1882 والمتجسد في القاعدة الإنجليزية والستين ألف جندي بآلياتهم العسكرية والمتحصنين داخل هذه القاعدة. « ده زي الفرخة إللي بتبيض بيضة دهب للمساهمين».
وكانت هذه القاعدة العسكرية قد وردت في معاهدة عام 1936 التي وقعها مصطفى النحاس مع الإنجليز ليتم الجلاء عن المدن المصرية. وكان وجودها نقطة خلاف كبيرة بين القوى السياسية المصرية وبين حزب الوفد، خاصة وأن مصر دفعت ثمنا لهذا الوجود في منطقة القنال. ومن أشهر المشروعات التي تحملت الحكومة المصرية إنجازها على نفقتها كان الطريق الذي مهدته الحكومة المصرية ليربط بين القاهرة والإسماعيلية وبور سعيد. وكان المصريون يطلقون عليه إسم طريق المعاهدة. وكانت هذه القاعدة العسكرية من أهم محاور المباحثات التي أجراها عبد الناصر عام 1954 مع الإنجليز في القاهرة كما إستمرت هدفا لطلقات الرصاص والهجمات التي كانت المقاومة الشعبية المصرية تشنها عليها.
وكان السياسيون المصريون يعرفون، وأتصور أن عبد الناصر كان يعلم جيدا كذلك، أن حق الإمتياز الذي منحه الخديو سعيد للشركة عند توقيع عقد إمتياز العمل بالقناة في 30 نوفمبر عام 1854 سينتهي عام 1969 أي بعد 99 عاما من تاريخ بدء التشغيل. بالرغم أنه قيل أيامها أن الغرب وتحديدا إدارة الشركة ذكرت أو ألمحت أو أشاعت أنها تريد مد حق الإمتياز مقابل أن تقدم للحكومة المصرية نصيبا سنويا أكبر من الذي تدفعه حتى ذلك الزمان. ومن الطبيعي أن تلحق بهذه الشائعة أو التصريح أن السبب وراء الرغبة في مد حق الإمتياز هو أن مصر لا تملك خبرة إدارة القناة وحماية الملاحة العالمية فيها والتي باتت احد أعمدة الإقتصاد العالمي. ولكن لم يعلن السبب الحقيقي وهو إستمرار نهب مقدرات الشعب المصري ووجود دولة موازية أخرى غير دولته الرسمية في القاهرة.
في هذه الظروف مجتمعة يمكن فهم سبب تأميم عبد الناصر القناة في يوليو عام 1956 وعدم إنتظاره بضع سنوات؟ وعلى حد قول الكثيرين الذين عارضوا التأميم، لماذا لم ينتظر ليجنب مصر والمصريين الدخول في «مغامرة التصدي أو التحدي للقوى الاستعمارية»؟. ولماذا لم ينتظر عبد الناصر ثلاث عشرة سنة وجنبنا آثار حرب؟ كان هذا الرأي موجودا في صفوفنا ولكنه كان خافتا لم يستطع الخروج للعلن ربما خوفا من عبد الناصر وأجهزته وربما خوفا من رد فعل الشعب المصري. وربما خوفا من الإثنين معا.
لكن الذي أعرفه جيدا أن الحكاية بدأت عندما أعلن جمال عبد الناصر برنامجه الخاص بمضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات. ووضع برنامجا من خلال لجنة الإنتاج التي شكلها من عدد من المهندسين والإقتصاديين وطرح مشروعاتها على المستثمرين المصريين والأجانب، بلغة ذلك العصر الخمسيني، طرح مشروعاتها على الرأسمالية المصرية والأجنبية. وقدم إمتيازات ومغريات لا بعدها ولا قبلها. لكن لم تتم الإستجابة من المصريين ولا من الأجانب. ومن ضمن هذا البرنامج الصناعي كان مشروع السد العالي الذي هو في الأساس مشروع مائي وليس كهربائيا. أي أنه سد يخزن المياة لزيادة الرقعة الزراعية المصرية ولإستخدام المياه المستقبلي في اوقات القحط ولتحويل زراعات الصعيد من ري الحياض إلى الري الدائم وبالتالي تزيد الرقعة الزراعية والمحصولية للأرض، ولم يكن السد العالي مجرد مشروع يوفر الكهرباء من توربيناته. أتصور أن عبد الناصر كان يعلم أن مثل هذه المشروعات لا يمكن أن ينفذها مستثمر مصري أو أجنبي وإنما لا بد أن تقوم الدولة بدور فيها. ومع وجود خزانة غير غنية وتعاني القحط وعدم توافر إلامكانيات المالية الكبيرة تقدم عبد الناصر إلى الغرب ثم إلى البنك الدولي لتمويل المشروع. وإنتظر لحين الإنتهاء من مفاوضات الجلاء عام 1954 ثم «خروج آخر جندي بريطاني من قاعدة القناة» في 18 يونيو عام 1956. أي أنه إنتظر بعد أن تم الجلاء العسكري. لقد كانت وجهة نظره الدائمة أن الإستقلال السياسي التام لابد أن يكون إقتصاديا بجانب كونه عسكريا. هكذا علمنا وإقتنعنا وإستمرت قناعتنا بذلك إلى اليوم.
وهنا ومنذ أن بدأت المفاوضات مع الغرب ومع البنك الدولي، بدأ عبد الناصر ومعه مصر كلها مرحلة من أكثر المراحل ثراء سياسيا. شاهدنا وعلمنا وتحدثنا عن مفاوضات ومناورات ومؤامرات وإبتسامات وإغراءات ورفض وقبول وتبادل رسائل ومذكرات وزيارات. وكانت مشكلة الغرب الرافض لمشروع السد بحجة أن مصر لا تستطيع إقتصاديا بناء مثل هذا المشروع الكبير، أنه كان يتعامل مع شاب لم يتدرب على الخبث او المكر السياسيين. كان صريحا واضحا لا يعرف اللف والدوران السياسيين على شعبه. وكان كثير الحديث عبر الميكروفونات. يقول كل ما عنده ويضيف على ما يعلمه ويذكر ويكرر كما من النكات والطرائف والصفات التي ترضي و»تكيف» ابن البلد المصري ومعه الإنسان العربي الذي لم يكن قد رأى سياسيين مثل هذا الشاب. عندما يأتيه رئيس الوزراء الأسترالي حاملا رسائل الرفض والمطالبة بالإشراف على ميزانية الدولة مقابل الموافقة على مشروع السد، يصفه عبد الناصر بصفة يضحك عليها الشعب المصري ومعه الشعوب العربية. «. . . الأسترالي ده عايز يرجع صندوق الدين». فيصفق الناس طويلا ويبيتون ويصبحون يرددون المثل. وعندما يسمع من رئيس الوزراء البريطاني تعليقا لا يعجبه يقول أنه أي عبد الناصر «سيتخلص»، (ولكن بألفاظ شعبية) من شعرات شوارب الأسد البريطاني مسقطا الصفة على رئيس الوزراء البريطاني. فينسجم الشعب المصري من زعيمه. فبدأت السياسة تتحول إلى حديث يومي مصري لا ينقطع على المقاهي أو في الشارع. تحولنا جميعا إلى سياسيين نردد ما يقوله الزعيم المصري الجديد.
لذلك تحول الموضوع من كونه مجرد فترة ثلاثة عشر عاما ينتهي بعدها الإمتياز، وكان يمكن لعبد الناصر إنتظارها، وتتسلم فيها مصر قناتها التي إستمرت مسلوبة لتسع وتسعين عاما، إلى حالة أخرى مختلفة تماما. حالة سياسية يقف فيها الغرب في جانب وفي مواجهة أخرى يقف بلد حديث الإستقلال يسعى لمضاعفة دخله القومي خلال عشر سنوات. صمم الغرب على أن مصر بلد زراعي وليس أمامه فرص قيام صناعة أو بناء هذا المشروع المائي الكبير وصمم عبد الناصر أن مصر والمصريين يستطيعون بناء صناعة تسهم في تقدم إقتصادهم وحياتهم بجانب تطوير زراعتهم.
لذلك كان الإعلان عن قرار التأميم في السادس والعشرين من يوليو عام 1956 هو الوصول بالأحداث إلى قمتها وردا على رفض الغرب تمويل السد العالي. فكان ما كان من تأييد شعبي عارم في الكثير من الدول. في المنطقة العربية كان التأييد لجمال غير محدود وكذلك كان التأييد من يساريي العالم وأحزابه الشيوعية تأييدا كاسحا وكانت الكتلة الإشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي مساندة على طول الخط. وفي جانب الشعب المصري وقفت شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. شعوب كانت تسعي لتحقيق إستقلالها وأخرى تسعى لاستكمال هذا الإستقلال نظرت إلى ذلك الشاب الذي لا يخاف الإمبراطوريات ويساند حركات التحرر في كل مكان، بكل فخر وإعزاز، وهو يواجه القوى التي طالما إستعمرت هذه الشعوب وقهرتها ونهبت خيراتها. وكان الشعب المصري كعادته التي بدأت تزداد تبلورا، ثابتا غير متردد واقفا مبديا رغبته في الدفاع عن قناته إلى أبعد حد.
وساعد المناخ الدولي الجديد عبد الناصر على السير والإستمرار في هذا الطريق الثوري. هذا المناخ الدولي الذي لم يعد المناخ الدولي المسيطر عليه من الغرب الإستعماري السابق للحرب العالمية الثانية بإمبراطورياته الكبرى وإنما قد تغير المناخ، وجاءت أوضاع جديدة تفتح الباب واسعا أما دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية للتواجد على الساحة السياسية العالمية. وبرزت مجموعات من الدول والزعامات في بلدان العالم النامي، حديث الإستقلال أو الساعية إلى تحقيق الإستقلال. في الصين كان شوأن لاي رئيس الوزراء ذو الوجه السمح الذي تعرف على عبد الناصر في مؤتمر باندونج عام 1954 وفتح له خط التواصل مع موسكو وبدأت على بديه عملية كسر إحتكار السلاح, كان نهرو في الهند وكان جوزيف تيتو في يوغوسلافيا وكان سوكارنو في اندونيسيا ونكروما يقود غانا إلى التحرر وسيكوتوري يكاد يصل إلى الإنتصار في غينيا وكانت جبهة التحرير الجزائرية تخوض نضالها في الجزائر وهي تعتمد على مصر ومساندة الشعوب لها. بينما تقف مصر في ذلك الحوار الغاية في السخونة مع الغرب. وحتى ذلك الوقت كانت الأحزاب الشيوعية والحركات الإشتراكية والنقابات العمالية عفية قوية تنظر إلى مصر وتعمل على ألا تتكرر مأساة مصدق رئيس وزراء إيران عندما أمم صناعة البترول في إيران ثم أسقطه الغرب في مؤامرة خسيسة مع العرش الشاهنشاهي الإيراني.
في هذا المناخ الجديد لابد أن تتراجع فكرة الإنتظار لمدة ثلاث عشر سنة حتي تتنتهي سنوات الإمتياز أمام فكرة التأميم وخوض معركته من أجل توفير المال اللازم لبناء السد العالي، المشروع المائي الكبير الذي سيعود بالرخاء على الوادي ويساعد على زيادة الدخل القومي. وسط كل هذا المناخ المتحرك أخذ الشعب المصري مكانه وسط كل هذه الأحداث بقوة.
رأيي الشخصي أن المصريين يملكون وعيا وضميرا جمعيين تراكما على مر السنين وتعاقب التجارب. يحتفظون بهما تحت جلدهم لوقت الحاجة واللزوم. يضرب الوعي إلى البعيد البعيد ويمتد الضمير إلى العمق، العمق الذي يصعب اقتلاعه. والسبب الرئيسي في هذا الوضع أن جهاز الدولة والجيش المصري وقناة السويس، ومنذ عقود قليلة انضم إليهم السد العالى، ليحتل مكانه بين الأحداث والمشروعات، التي تشكلت وفتحت وبنيت وقامت واستمرت، كانت كلها على يد قاطني هذا العمق وذلك البعد، الفلاحين.
وكان عبد الناصر قد اخترق الريف من خلال مشروع الإصلاح الزراعي ورفع أجر عامل الزراعة وحدد الإيجارات الزراعية. ثم جاء مشروعه الخاص ببناء الوحدات المجمعة وفتح المدارس لتعليم أبناء الفلاحين. في خطابات عبد الناصر المتكررة كثيرا ما كان يتحدث عن عمال التراحيل. تلك الشريحة المقهورة من الريفيين والمعدمين من عمال الزراعة التي كانت تجسد حالة إستغلال كبرى» عايشين على الجبن القديم والبصل وما حدش بيرحمهم، عرايا في الصيف والشتاء». فكان التأييد لقرار التأميم من جذور المجتمع وليس فقط من ابناء المدن.
في مشروع حفر قناة السويس عرفنا ديليسبس والخديو سعيد والخديو إسماعيل والضابط إسماعيل مجدي بك رئيس الحرس المكلف بحراسة الفلاحين ومنعهم من الهرب ليلا من مواقع الحفر عندما ينتصف البدر ليلا في السماء، وبعد الإمساك بهم تتم محاكمتهم الصورية ليجلدوا علنا أمام زملائهم. عرفنا كل هؤلاء الاشخاص بأسمائهم وألقابهم ولكن الذي عرفناه أكثر وأكثر هو الفلاح المصري. الفلاح الذي حفرها ومات من أجلها عطشا وجوعا ومرضا وجلدا وتعذيبا ولكنه لم يحضر حفل إفتتاح القناة مع الإمبراطورة أوجيني.
تحدثت الكثير من الكتابات عن الأعداد التي شاركت في الحفر. في أقوال قيل تسعين ألفا ثم مائة وعشرين ثم ستين الفا. ركز الجميع على هذه الأعداد التي جيء بها للعمل قسرا في مواقع حفر القناة، المشروع الرئيسي، ولكن تم تجاهل تلك الأعداد الأخرى التي جلبت قسرا هي الأخرى من قراها لحفر الترع الموصلة لمياه النيل العذبة إلى مواقع الحفر. هذه المشاريع الجانبية التي كانت مسئولية الحكومة المصرية دون غيرها تنظيما وإنفاقا. شكل الفلاحون المصريون ثمانين في المائة من العمالة في عمليات الحفر في القناة. لكنهم شكلوا نسبة مائة في المائة من عمالة عمليات حفر ترع المياه العذبة. هكذا تم الإتفاق بين الخديوي سعيد وإدارة القناة. فعمليات حفر القناة الرئيسية أو الترع التي حملة المياة العذبة إلى مواقع الحفر وإلى مدينة السويس كانت عمليات استغلال كبرى دولية ومحلية. قامت بها الشركة الفرنسية المسئولة عن المشروع وبذات القدر كانت مسئولية الحكومة المصرية القائمة على تنفيذ نصيبها من المشروع.
كانت غالبية العمالة الأجنبية من الإيطاليين والمالطيين واليونانيين والقبارصة القادمين من بلدان بدأ عمالها يعرفون الإضراب والحركة الجماعية. كما جلبت الشركة البعض من العمالة السورية التي لم يتجاوز عددها الألفين من العمال ولكن ما برحت الشركة تلجأ إلى الإستغناء عنها لإرتفاع تكاليف نقلها من بلاد الشام إلى مواقع الحفر. كان الفلاحون المصريون ارخص في تكلفة النقل. ولكن غالبية من جاءوا من جنوب اوروبا كانوا من المتعطلين في بلدانهم ومن المتسكعين واللصوص الذين لم يعملوا في عمليات حفر القناة بالقدر الكافي ولم يقتربوا من الترع الموصلة للمياة العذبة. لذلك لم يعانوا معاناة الفلاحين المصريين. وكانت الخناقات تقوم بين الطرفين عندما يرفض المصريون الدخول في إضرابات أو حركات تذمر العمال غير المصريين. فلم يكن المصريون قد تعرفوا بعد على هذه التقاليد العمالية التي أفرزتها الظروف القاسية التي شهدتها ونمت على عرقها ودمها الثورة الصناعية في إنجلترا أو فرنسا في توظيفها للعمال. كما أنهم عوملوا كعمال أجراء وليس كعمال مسخرين للعمل كما عومل الفلاحون المصريون الذين كانوا يجلبون من قراهم وقد قيدت إحدى أقدامهم بحبل يربط بين أفراد الطابور الطويل حتى لا يهرب أحدهم. إذا كانوا من الصعيد ينتقلون في مراكب شراعية على طول النيل لينتقلوا بعد ذلك برا إلى منطقة الفرز في الزقازيق. وكانت الرحلة من الصعيد إلى موقع الفرز تأخذ عشرين يوما كاملة.وإذا جلبوا من مديريات الدلتا نقلوا بالسكك الحديدية إلى منطقة الفرز في الزقازيق. في منطقة الفرز يتم قبول الأقوياء القدارين على العمل الشاق ويرفض الضعفاء منهم.
لا يمكن أن نسقط الوضع الحالي لمنطقة القناة ومدنها وقراها عل ذلك الزمان القديم. وإنما لابد أن نعي أن هذه المنطقة كانت كالصحراء الخالية من المدن والقرى إلا من البعض من التجمعات البشرية المتخصصة في الصيد على البحيرات التي تم شق القناة بينها. لم تكن في هذه المنطقة من مدن إلا مدينة السويس التي كانت في القديم مركزا وإحدى المحطات للتجارة البرية القديمة بين الشرق والغرب إلى أن تم إكتشاف رأس الرجاء الصالح. كما كانت باستمرار الطريق إلى الحج بالمراكب البحرية.
وللوصول إلى التقدير الواقعي لتأثر استنزاف الفلاحين من قراهم لابد أن نعرف أن تعداد الشعب المصري حيذاك لم يكن قد وصل إلى الخمسة ملايين نسمة. ومن هنا يمكن تقدير التأثير السلبي لعملية الجلب القسري للعمال على حال وناتج الزراعة المصرية.
من هذه الملايين التي لم تكن قد بلغت الخمسة تم تسخير في موقع واحد عدد 176780 عاملا. تجمعوا جميعا في فترة واحدة. كان هذا الموقع هو هضبة عتبة الجسر بالقرب من مدينة الإسماعلية الآن. كانت هذه الهضبة من أهم العقبات أمام سهولة توصيل البحرين. كان إرتفاعها 5، 19 متر.
ثم في عملية حفر ترعة المياه العذبة التي تم الإتفاق عليها بين الخديو سعيد وبين ديليسبس، قامت الحكومة المصرية بتسخير 120 ألفا من الفلاحين لحسابها. أنفقت على مشروع الترعة بالكامل ثم وافقت على أن تمتلك الشركة الأراضي التي تقع على ضفتها لزراعتها واستثمارها. نعرفها الآن على أنها ترعة الإسماعيلية التي تروي زراعات محافظة الإسماعيلية وقراها بتصل بمياهها إلى مدينة بور سعيد.
ثم جاءت الحكومة وإلتزمت كما إلتزمت بكل بنود القعد بحفر ترعة مياة عذبة أخرى تمتد من منطقة نفيش إلى مدينة السويس لتسهيل عمليات توصيل المياه إلى العمال أثناء حفرهم للجزء الجنوبي من القناة كان طول الترعة 730، 89 كيلومتر واتساعها خمسة وعشرين مترا وعمقها مترا ونصف. وقد رفع الفلاحون المصريون انقاضا تقدر ب 000، 347، 3 متر مكعب. لشق هذه الترعة سخرت الحكومة المصرية مائة ألف فلاح.
هذه نماذج ثلاث من عمليات إستخدام السخرة في تعمير هذه المنطقة من أرض مصر. فالفلاحون المصريون لم يحفروا القناة فحسب ولكنهم حفروا الترع الموصلة لمياه النيل العذبة إلى مناطف الحفر. كان الفلاحون المصريون أساس تعمير هذه المنطقة التي باتت عزيزة علينا بقناتها ومدنها وناسها. كانوا وقودا لبناء إقتصاد مصري وعالمي في ذات الوقت.
بالقطع كان مشروع حفر قناة بحرية تربط البحرين الأبيض والأحمر مشروعا حضاريا من الدرجة الأولى. خدم التجارة العالمية والإنسانية جمعاء. كما انه ساعد في تعمير منطقة مصرية كانت قبل إنجازه منطقة صحراوية لا زرع فيها ولا بشر. حدث التعمير وسهلت التجارة العالمية ولكن بتكلفة بشرية مصرية هائلة.
أتصور أن هذه الأحدات تعيش في ذلك الضمير المصري وفي وجدانه. تعيش تحت جلده.
تستدعى هذه القيم وتلك الحقائق في اللحظات التاريخية الحاسمة، لحظة التأميم ولحظة وقوع العدوان وصده بالمقاومة وعند الإفتتاح ثم في لحظة البناء والتعمير. في هذه اللحظات يستعيد الشعب المصري فصولا من تاريخه الحديث المليء بالتجارب وبالتضحيات ليكتب ويضيف إليها فصولا أخرى.
لذلك لم اشك لحظة في أن إقدام الشعب المصري على الإسهام في تمويل مشروعه الكبير وتفريعته العظيمة في أغسطس عام 2014. كان الفارق معي هي السرعة ، وفقط.
لاتزال تجري دماء الفلاحين المصريين في عروقنا.
لمزيد من مقالات أمينة شفيق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.