التوقيت الصيفي.. تعرف على أهمية وأسباب التوقيت الصيفي    عيار 21 الآن بالسودان وسعر الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق في ختام الأسبوع اليوم الخميس 25 إبريل 2024    ارتفاع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 25 إبريل 2024    خوفا من اجتياح محتمل.. شبح "المجزرة" يصيب نازحي رفح الفلسطينية بالرعب    الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خليج عدن    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    حزب الله يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية مختلفة    موعد مباراة الهلال المقبلة أمام الفتح في الدوري السعودي    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    "شياطين الغبار".. فيديو متداول يُثير الفزع في المدينة المنورة    ميدو يطالب بالتصدي لتزوير أعمار لاعبي قطاع الناشئين    حزب المصريين: البطولة العربية للفروسية تكشف حجم تطور المنظومة الرياضية العسكرية في عهد السيسي    ب86 ألف جنيه.. أرخص 3 سيارات في مصر بعد انخفاض الأسعار    محافظ المنيا: 5 سيارات إطفاء سيطرت على حريق "مخزن ملوي" ولا يوجد ضحايا (صور)    تطور مثير في جريمة الطفلة جانيت بمدينة نصر والطب الشرعي كلمة السر    بالصور.. نجوم الفن يشاركون في تكريم «القومي للمسرح» للراحل أشرف عبد الغفور    عن تشابه «العتاولة» و«بدون سابق إنذار».. منة تيسير: التناول والأحداث تختلف (فيديو)    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    إصابة 9 أشخاص في حريق منزل بأسيوط    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    الأرصاد تعلن موعد انكسار الموجة الحارة وتكشف عن سقوط أمطار اليوم على عدة مناطق (فيديو)    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    توقعات ميتا المخيبة للآمال تضغط على سعر أسهمها    أول تعليق من رئيس نادي المنصورة بعد الصعود لدوري المحترفين    الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يعلن الترشح لفترة رئاسية ثانية    تدريب 27 ممرضة على الاحتياطات القياسية لمكافحة العدوى بصحة بني سويف    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    بيع "لوحة الآنسة ليسر" المثيرة للجدل برقم خيالي في مزاد    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    يسرا اللوزي تكشف كواليس تصوير مسلسل "صلة رحم"|فيديو    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    تأجيل دعوى تدبير العلاوات الخمس لأصحاب المعاشات ل 24 يونيو    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية شعب .. إن أراد فعل
يوميات ابطال على جبهة القتال
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 08 - 2015

يجلسون فى خيامهم البسيطة على شاطىء القناة الجديدة، يتقاسمون براد شاى فى «الخمسينة» ساعة الراحة، أو يفر بعضهم من حرارة صيف تزيد رمال الصحراء من لهيبها، بالسباحة فى مياه فجرت أياديهم ينابيعها. تملؤهم مشاعر الزهو والفخر بما أنجزوا، يجترون ضاحكين أحاديث قلق ومخاوف البدايات والأيام الصعبة، حين كانت الأرض حولهم رمالا وصخورا، تنتظر سواعدهم لحفرها، فى فترة محسوبة، لتتحول الى مجرى مائى عالمى.
وقد حدث.. حدث بالفعل، تحقق الحلم وتحول إلى واقع، تجلى يوم أن عبرت لأول مرة، ثلاث سفن عملاقة، فى المجرى الملاحى للقناة الجديدة، تلك «القناة الحلم»، التى أنجزت فى الميعاد، بعد أن اعتبر البعض ذلك وقتها ضربا من خيال، ووعدا يستحيل تحقيقه.. لكنهم المصريون الذين إن أرادوا فعلوا.. وقد فعلوا.
عمال ومهندسون ومقاولون، كانوا هم الأكثر فرحا بعد أن تحولت الصحراء بفضل جهودهم إلى واحة أمل وشريان حياة لمصر.
قضوا أياما صعبة وليالى، تغلبوا على قسوتها بالضحكات والسمر، وتسلحوا بالأمل.. اجتمعوا فى الحلوة والمرة.. تعارفوا وتصادقوا وحلموا معا حتى تحقق الحلم.
حكايات وذكريات، سوف تبقى فى ذاكرة التاريخ يرويها رجال، حققوا معجزة مصرية جديدة .. «عاش الرجال اللى قالوا يا مصرنا مفيش محال».

قلنا هنبنى.. وادينا بنينا «القنال».
من أموالنا.. بايد عمالنا.. هكذا كان لسان حال كل من شارك فى اتمام مشروع مصر الكبير.. فيض عظيم من مشاعر الفخر والزهو والعزة تسيطر على المكان.. هنا «خلطة رجال» من محافظات مصر المختلفة.. عمال و فنيون.. مهندسون.. فلاحون وبدو وصعايدة.. يشاركون فى وضع اللمسات الأخيرة.. برصف وتمهيد الطرق حول المجرى الملاحى.. وعمل مراسى السفن والشمندورات.. واستكمال المعديات الجديدة أو الإعداد لسلسلة مشروعات أخرى.. يبدون كالجنود على الجبهة. يتحملون مسئولية الوطن.. ومستعدون دوما للتضحية من أجله.
خيامهم وعششهم البسيطة، كانت شاهدة على أيام الشقاء والتعب، وكثيرا ما أودت بها الرياح والأمطار فى ليالى شتاء ثلجية أو عواصف ترابية، فى مناخ ألهبت شمسه جلودهم.. والآن فإن بعضهم يتابع العمل، بينما يجلس آخرون يروون ذكرياتهم، بعد أن قضوا أياما وليالى طويلة يقاومون التربة الصخرية ويواجهون تقلبات الطبيعة تماما كالجنود على الجبهة.. هدفهم تحقيق الحلم، حلم العبور بمصر للمستقبل.
عاشوا على الحلوة والمرة.. واجهوا الموت أحيانا والكثير من الشائعات، ومحاولات تثبيط الهمم من أناس يكرهون الخير للوطن. كانوا كلما عادوا فى اجازات إلى محافظاتهم يحاول البعض التشكيك فى المشروع و السخرية منه أمامهم وهو ما كان يزيد البعض اصرارا كما يقولون.
صالح عيد يعتبر فرحة دخول أول سفينة المجرى الملاحى كفرحة تحرير سيناء من أيدى الأعداء..
وفى جلسة حكى للذكريات، اجتمع سليمان أبو عيد، ومحمد العيادى ، والشيخ سويلم ابو حماد، وسيد محمد، وعبد النبى عبد الرحيم، و ابراهيم متولى.
من الاسماعيلية و القنطرة والاسكندرية، حكى كل منهم عن الأيام الصعبة، حين كان العمل يبدأ من السادسة صباحا و يستمر لمدة 24 ساعة، فى ظل حرارة تتعدى الخمسين درجة مئوية، هنا فى الصحراء.. رطوبة عالية أو عواصف رملية.. أمطار غزيرة أو ثلوج قاسية.. لكنهم كانوا يقاومون برودة الشتاء بإشعال النار والمشروبات الساخنة.. وجلسات السمر والأغانى.
هدف مشترك
دفء العلاقات الإنسانية والتجمع حول هدف مشترك ووجود القدوة من ضباط وقيادات عسكرية تشارك الجميع بانضباط، كلها عوامل صنعت حالة خاصة وخلقت طاقة جبارة، كونت جميعا واحة حياة فى قلب الصحراء.. أيام حلوة و مرة جمعت آلاف العمال و المهندسين والمقاولين والضباط فى أجواء تبدو كأنها فى مصر أخرى.. رجال تلمع أعينهم بحب الوطن والانتماء له.. يعتبرون مشاركتهم فى حفر القناة وسام شرف يفتخرون به.
ويؤكد أكثر من صوت بينهم أنه على الرغم من أننا نأخذ أجورا ترضينا لكن ما يدعونى لترك أسرتى بالاسابيع والشهور والعمل فى ظل هذه الظروف القاسية هو اصرارى على المشاركة فى تحقيق الانجاز فى موعده و أن يعرف العالم أن ابناء الفراعنة قادرون على صنع المعجزات.
محمد عبده سائق لودر، وكريم ابو بكر سائق على الخلاط، يصفان كيف كانت «الأرض ناشفة والجو نارا فى أول الحفر.. ماكانش حد يتصور اننا نخلص قبل الميعاد».. أما سليمان أبو عيد فيتذكر كيف شاهدوا الموت عن قرب، فيقول ان هناك من ماتوا أمام أعيننا بسبب حوادث السير وصعوبة التربة والتقلبات المناخية فى الصحراء لكننا رغم كل الصعوبات استطعنا انجاز الحلم فى زمن قياسى.
كانت الطبيعة الرملية المختلفة لأرض قناة السويس الجديدة تحديا آخر واجهة عمال القناة حيث تعرضت بعض المعدات للتلف نتيجة انهيار التربة أسفلها وأحيانا لعدم خبرة السائق كانت تحدث انهيارات لتلال الرمال على السيارات النقل ولكن بدون اصابات بشرية، وفى احدى المرات انهار حوض ترسيب بسبب زيادة المياه فيه.
شهور طويلة عمل فيها أبناء الفراعنة ليل نهار، وكافحوا الظروف الصعبة وقاموا تقلبات الطبيعة حتى يتحقق الحلم.
«هى أمنا.. أم واحدة بس»، هكذا يصف محمد العيادى سبب تحمله مشاق العمل هنا قائلا إنها مصر.. ماذا نفعل لو فقدناها؟.. ونحن أبناؤها الذين يجب علينا الحفاظ عليها.. و يضيف: «زمان أجدادنا اشتغلوا بالسخرة فى حفر القناة الأولى أما احنا اشتغلنا بمزاجنا وأخدنا حقنا»، فى حين يرى سليمان أبو عيد من قبائل العيايدة السيناوية أن مشروع مصر خلق حالة حياة جديدة بين بدو المنطقة و فرصا للعمل، ويقول اننا وضعنا كل امكاناتنا لمساندة الجيش فى حماية المنطقة وشاركنا فى كل مراحل العمل والبناء، مشيرا إلى أن كلا يأخذ حقه فى موعده لكن بقدر انتاجه.. أما من يتقاعس فليس له مكان.
صغار يصنعون المستقبل
مراحل عمل كثيرة و طويلة ما بين حفر على الناشف و لوادر و بلدوزرات تحمل وتنقل الرمال إلى مراحل التكريك وأحواض الترسيب و تنظيف القناة، و تسويرها وتدبيشها، ثم عمل المراسى والشمندورات و المعديات.
مراحل عديدة، شارك فيها آلاف العمال ومازال الكثيرون يستكملون بعض اللمسات الأخيرة، حتى الصغار أبوا إلا أن يشاركوا آباءهم فى مشروع المستقبل مثل مصطفى (13 سنة)، الذى صمم على القدوم مع والده المقاول للمشاركة فى أعمال النجارة و الحدادة، فى أثناء صناعة الشمندورة، مشيرا إلى فخره بمشاركته فى العمل التاريخى.
وكما يشتاق العمال للعودة إلى منازلهم ليحكوا لأبنائهم عن قناة السويس، هكذا حال أحمد محمد مسعد (13 سنة)، من مدينة القنطرة، الذى ينتظر متلهفا العودة إلى أصدقائه ومدرسته مع بداية العام الدراسى الجديد ليحكى لهم عن مشاركته فى الأعمال النهائية.. وكذلك مصطفى أحمد سليمان (14 سنة)، والذى جاء مع «عم سيد» جاره بالاسماعيلية، ليعمل فى قناة السويس الجديدة ويقول:" جئت هنا علشان أجيب رزق فى الاجازة لمساعدة اسرتى وبأنفذ أعمال بسيطة زى خلع مسامير ونقل أخشاب صغيرة ومناولة العدة».
ولم يكن أبطال حفر القناة الجديدة بمنأى عن العديد من الشائعات التى تم الترويج لها خلال العام الماضى، لكنهم كانوا شهود عيان على الحقيقة وأصروا على نقلها ..يقول عبده سليمان حمدان: «بعض الجيران كانوا بيقولوا ان القناة دى أصلا محفورة وان الحكومة بتضحك علينا، بس احنا جينا ومكانش فيه نقطة مياه، وحضرنا الحفر على الناشف وبعدين ظهرت المياه».. ويرى أن طريقة ادارة المشروع كانت جيدة جدا وجادة جدا، وأن ذلك أحد الاسباب الرئيسية التى ساهمت فى نجاحه، فأى تقاعس من مقاول كان الرد يأتى فوريا بتكليف آخر بدلا منه.. ويؤكد بحسم أننا نريد أن ترى جميع دول العالم انجاز المصريين.
دينامو المشروع
عمل يواصل الليل بالنهار.. دون اجازات.. مكان يمتلىء دائما بالعمالة.. ومقاولون ومهندسون فى حالة تأهب دائم لتنفيذ «الأوامر العسكرية»، بالانتهاء من العمل فى وقته المحدد، وإلا فالبديل مقاول آخر وشركة أخرى.. الجميع يعمل على قدم وساق.. ويخطفون ساعات النوم والزيارات العائلية .. كيف لا وهم يجدونه دائما بينهم فى أى لحظة يراقب العمل و يبيت معهم فى مواقع العمل.. إنه اللواء كامل الوزير، رئيس أركان الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة والمشرف العام على مشروع حفر القناة الجديدة، و «دينامو المشروع»، كما يصفه الجميع هنا من مقاولين ومهندسين وعمال.. يعرفه الجميع .. ويلجأون إليه فى حالة ظهور أى مشكلة ليتدخل سريعا لحلها.
ورغم قربه من أصغر عامل وحتى أكبر مقاول فى الموقع، إلا أنه لا تهاون لديه فى العمل ولا تسامح مع مقصر.. سنة صعبة من العمل الشاق كما يصف إبراهيم عونى شقيق محمد عونى اللذين قاما بتشغيل 137 سيارة نقل و 62 لودرا.. ويشرح ابراهيم انه لا وقت للراحة أو التهاون فالجميع يحاسب بالانتاج والمواعيد «ميرى».
لقمة هنية وقعدة بدوية
بعد ساعات من العمل الشاق على اللودرات والنقل والميكروباصات والحفارات يجتمع عشرات العمال فى عششهم المبنية من القش فوق أحد التباب المرتفعة التى تطل على القناة الجديدة.
يفترشون الحصير وينتظرون متلهفين أطباق الطعام من صنع يد «عم سعيد»، طباخ الموقع.. ويختلف "منيو" عم سعيد حسب الظروف، ليكون أساسها البطاطس والفول والجبن لكنها تزدان باللحوم مرتين أسبوعيا.. يضحكون ويتسامرون ويتقاسمون لقمة العيش، حلة أرز أو أكواب شاى.. ويقول عم سعيد: «البركة فى المكان ده.. الروح الحلوه تخلى الأكل يكفى ..مش عارف ازاى.. بأجهز حلة أرز واحدة تكفى يادوب أسرة من خمسة أفراد.. لكن هنا بتكفى 40 فردا».
يجمعهم المكان والعمل والهدف الواحد.. يصنعون الصداقات وتذوب الخلافات حتى بين أبناء القبائل المختلفة.. يذوبون فى جلسات سمر ليلية تتشابه مع «القعدة البدوية».
جلسات الصحبة و السمر تفوق أهميتها لدى عرب سيناء أهمية أن يتملك أرضا، كما يقول موسى الزمالوط من بئر العبد بسيناء، مستحضرا أحد أمثالهم: «كوع فى الرمل ولا فدان فى الطين».
هنا يجتمع يوميا عدد كبير من الشباب الذين يعملون فى الموقع ..محمد سليم ..محمد ماهر من المنصورة ..باسم محمد ..سليم محمد سليم احمد سلام من الاسماعيلية.. خيرى جمعه من العريش .
هنا تجمع أهل الشمال مع أهل الجنوب وتكونت صداقات جديدة ومعارف اجتمعت على بذل الجهد والكفاح من اجل لقمة العيش منهم السيد عرفات من كفر الشيخ الحاصل على ليسانس لغة عربية قسم تاريخ والذى لم ينتظر الوظيفة المناسبة لتخصصه، لكنه سعى وراء رزقه حيث ساعده أبناء عمومته للعمل على حفار فى قناة السويس وكان يرفع التربة المشبعه بالمياه من قلب القناة .. ويشرح: «كان أول شهر لى هنا هو الأصعب فى حياتى كلها.. ماكانش لى أى معارف هنا.. وكان الجو حر جدا.. وكان الشغل صعبا لأن الأرض صلبة.. ولكن مع الوقت كونت صداقات ومعارف واتعودت على ظروف الشغل».
ويضيف قائلا انه يحرص يوميا على تصوير شىء جديد فى القناة ليحمله على "الفيسبوك" ولكن هناك البعض لا يريد تصديق الحقيقة مهما كانت واضحة.
أما موسى الزمالوط ، من أوائل المشاركين فى حفر القناة فقد اصيب مؤخرا بكسر فى القدم و لكن ليس بسبب اعمال الحفر لكن بسبب كرة القدم، فمنذ شهر قرر مع زملائه الترفيه عن انفسهم بتكوين فريقين للعب كرة القدم ولكنه أصيب اثناء المبارة.
ويقول اننا لم نجد صعوبة فى الاقامة هنا بالنسبة لنا كعرب وبدو فهذه طبيعة حياتنا ولكن بعض القادمين من الوادى ( بحرى والقاهرة) وجدوا صعوبة فى التأقلم ولكن كنا يدا واحدة و نساعد الجميع حتى ان واحدا من زملائنا كان يخشى النوم على الأرض لظنه أن الصحراء مليئة بالفئران فكنا ننصب له سريرا ونرفعه عن الارض بالأحجار.
ويروى الزمالوط أيضا عن الشائعات التى تعرضوا لها ومن بينها «الهوام» أى الثعبان الضخم بلغة أهل سيناء قائلا اننى تلقيت ذات مرة اتصال من والدتى تحذرنى فيه من الهامات الضخمة التى تنتشر فى القناة والتى يصل طولها لمترين وانهم يرددون انها أكبر من الدبابة فطمأنتها وأكدت لها أننا ليس لدينا «هامات»، ويضيف أننا كنا نتلقى هذه الشائعات بالسخرية والتندر فنحن لم نصادف هذه الخيالات.
ويتذكر ضاحكا سخرية بعض الموالين للجماعات المتشددة من الاخوان وغيرهم وهم يتحدثون عن مشروع القناة قائلين: «خلصتوا حمام السباحة ولا لسه؟!».. ويعلق قائلا انها كانت محاولات لتثبيط الهمم الا أنها كانت لا تزيدنا إلا اصرارا وعزيمة فى كل مرة اعود فيها لمقر عملى بالقناة حتى يكون الرد عليهم عمليا.
وأخيرا.. الحكاية مش حكاية قناة حفرت فى موعدها لكنها حكاية شعب.. رجال مصريون تظهر الشدة معادنهم.. أثبتوا للعالم أنهم قادرون .. كافحوا وواجهوا وأنجزوا.. ووثقوا من خلال صورهم البسيطة حلم مصر وهو يتحقق.. قدموا أدلتهم فى وجه دول يعلمون أن نجاح مصر حسرة لهم.. لكنها ارادة المصريين الذين ان أرادوا فعلوا .. فيحيا الشعب.
«شهادة تقدير».. حلم عم سعيد!
«الأمل البعيد والفجر القريب».. هو الشعار الذى اختاره سعيد الحفناوى على الصفحة التى دشنها على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» لتوثيق مراحل مشروع القناة.
«عم سعيد»، أتى من الاسماعيلية منذ بدايات الحفر وشارك فى العديد من المهام فى مشروع مصر رغم سنوات عمره التى تتعدى الخمسين ورغم صعوبة المناخ .. عمل ككاتب يحصى ما أنجزته السيارات واللوادر و مسئولا عن براميل الغاز ثم طباخا ماهرا لعمال الموقع بعد يوم طويل من العمل الشاق.. ينظم المكان ويجهز الطعام ويلتف حوله الجميع، يداعبونه وينتظرون أكلاته التى يتفنن يوميا فى اعدادها.
يرى أن المصريين كافحوا وأنجزوا وأنهم أعطوا أفضل ما لديهم هنا على أرض المشروع.. فهم لا يُعرفون الا وقت الشدة.
«بذلنا كل الجهد حتى نتمم فرحة مصر.. كنا نعمل بشكل متواصل ولا نعود الى بيوتنا إلا فى زيارات خاطفة.. منا من عاد للموقع يوم خطبته وآخرون تركوا أسرهم وأعمالهم كى يشاركوا فى المشروع القومى.. واليوم اكتمل الفرح وعبرت السفن»
هذه كلمة العاملين فى مشروع مصر الكبير، وهناك من ينتظر منهم المكافأة فى صورة فرصة عمل ثابتة أو شقة يتزوج فيها، وتلك أقل حقوقهم. ويطالب آخرون بحقهم فى التكريم بعد ما أنجزوه لتحقيق المعجزة فى هذا الوقت القياسى، بينما يحلم البعض الآخر بحضور حفل الافتتاح.
أما «عم سعيد»، فكان له حلم أكثر بساطة، حيث يتساءل قائلا.. كيف أثبت لأحفادى أننى شاركت فى معجزة مصر ومشروعها القومى..ألا نستحق بعد كل هذا الشقاء والبذل والتضحية شهادة تقدير وكلمة شكر؟
حلم «عم سعيد» والكثير من أبطال المشروع الذين بذلوا العرق والجهد وتحملوا مشقة العمل والظروف وواجهوا التحديات حتى يساهموا فى عبور مصر للمستقبل، هو فقط.. أن يستطيعوا توثيق عملهم فى هذا الإنجاز للتاريخ.. ولو بشهادة تقدير.. حتى يرووا يوما الحكاية كاملة لأحفادهم.. فهل هذا كثير؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.