قناة السويس تجرى فى أجسامنا وفى وجداننا كما تجرى الدماء فى الشرايين, لأنها شريان من شرايين الحياة . وتسكن فى عين وقلب كل ابن من أبنائها, فإذا أغمضت عينى وصنعت شريطًا لأهم الصور التى تمثل قناة السويس: من السفن , العالم والبشر, ومصر تحتضنهم. وشريان الحياة الذى تمثله القناة يربط ما بين أنحاء الدنيا ويمثل نقطة ارتكاز , نقطة عبور وتلاق , نقطة صراع ومطامع.. قناة السويس أستطيع أن أرى من خلالها التاريخ والجغرافيا وأرى البشر وكل الدنيا . أتذكر طفولتى فى مدينة بورسعيد, ومدينة بورفؤاد وليدة بورسعيد الصغيرة, وأنا أعبر بالمعدية التى كانت فى الماضى شيئا مختلفا تماما, فكانت سفينة جميلة تعبر ما بين آسيا وإفريقيا, بين قارتين . وكلما ذهبت أيضًا إلى القناة ينتابنى ألم بلا حدود واتساءل: لماذا تهمل , لماذا تترك بورسعيد ليحرم أبناؤها من خيراتها وهى تمتلك مقومات لا تمتلكها جميع مدن البحر: من الموقع والإمكانيات وطبيعة البشر وأبو العربى ابن بورسعيد الرائع , والمرأة البورسعيدية الأسطورة التى كتبت منها «ليلة القبض على فاطمة» . طوال عمرى أؤمن بأن من أكبر الأكاذيب التى رفعت على مصر أنها بلد فقير ولكن هذا فقر إدارة ,فقر فكر, فقر رشد وإدراك لقيمة هذا الوطن . فإن منطقة القناة كانت تمثل لى الكنز المدفون.. الكنز القادم . شاهدت العسكرى الانجليزى فى مدن القناة والشركة الأجنبية تريد أن تطيل الاحتكار لولا تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لها . شاهدت قناة السويس وهم يحاولون أن يثبتوا أن المرشد المصرى عاجز عن أن يعبر بالسفن , وتصوروا أن المرشد الأجنبى إذا خرج منها تتوقف القناة , فإذا بالمرشد المصرى يصنع ملحمة نجاح لا أول لها ولا آخر . شاهدتها بعد العدوان الصهيونى الخسيس فى 67 مما لا أقبل أبدًا أن تسمى هزيمة لجيش لا يهزم وهو الجيش المصرى خير أجناد الأرض , فهو فشل سياسى وليس هزيمة عسكرية . شاهدت فى 56 كيف حاولوا أن يعودوا ويستولوا على القناة ليتخذوا من بورسعيد مدخلا للعبور إلى مصر وإعادة احتلالها. وهنا كان أبناء بورسعيد هم رأس الحربة الضاربة. فالمقاومة الشعبية هزمت القوات البرية والجوية والبحرية لثلاثة جيوش . فإن المحور دائما كان قناة السويس . شاهدت العدو الصهيونى وهو يصنع خط بارليف واسمه خط المستحيل والذى هزمه المقاتل المصرى بخراطيم المياه . شاهدت تلغيم قناة السويس لتتحول إلى بحيرة من النار إذا فكر الجنود والضباط والمقاتلون المصريون أن يعبروا . شاهدت 73 والانتصار والعبور . ثم بعد 73 للأسف الانهيارات الاقتصادية والإهمال والسياسات الفاشلة فى إدارة المنطقة ليتعرض أبناؤها الذين كانوا الأوائل دائما على خرائط ومعدلات التنمية لأبشع أنواع الإهمال والعقاب والحرمان , حتى تأتى القناة الجديدة رد اعتبار, اعتذاراً, قبلة على جبين مصر . تحية للذين ماتوا فى حفر القناة القديمة , رفعاً لعلم القدرة المصرية والتحدى المصرى . القناة الجديدة إنجاز وتحد للعامل والمهندس المصرى والقوات المسلحة المصرية , وكان هناك الاكتتاب العظيم الذى شارك فيه المصريون فى أيام معدودة ليجمعوا 66 مليار جنيه الذى كان بعيدًا عن كل التصورات أو الاحتمالات فى حجمه وفى زمنه القياسى , لأن الوعى والضمير المصرى يعرف ماذا تعنى القناة وماذا يعنى إضافة هذا المجرى الملاحى وتوسيع حركة الملاحة وزيادة تدفق السفن والتنمية فى مدن القناة وإنشاء الإسماعيلية الجديدة وميناء شرق بورسعيد وتنمية بورسعيد وآفاق تنمية بلا حدود , إثبات للغنى والثروات البشرية والطبيعية التى تمتلىء بها هذه الأرض المدهشة والتى من أهم محاور ثرائها وعظمتها وقوتها قناة السويس . يقول تاريخ القناة إن إنشاءها صنع الأطماع لتسرقها من مصر ولتجعلها مشروع استغلال مصر ولكن بالشعب المصرى وبالإرادة المصرية تحولت إلى قصة تحد وقصة نصر ونقطة ارتكاز لآفاق قدرة ونجاح قادم بلا حدود بإذن الله, لأنهم يعرفون ماذا يعنى هذا المشروع وماذا يمثل لمصر اقتصاديا وحضاريا, ولذلك أرى أنها تستدعى من المصريين الأمناء أعلى درجات الانتباه, لان هذا الكنز قد تم فتحه وبدأ تمليكه للمصريين, فكل اللصوص والناهبين والطامعين لا يريدون تركه لمصر . ولكن أنا أثق بعد الثقة الكاملة بالله فى إرادة الشعب الذى تزيده التحديات صلابة.