كانوا لا يخافون فى الحق لومة لائم ، لما أحضر الحجاج بن يوسف الثقفي عالم الدنيا فى زمانه سعيد بن جبير (ذُبح سنة خمس وتسعين من الهجرة ولم يكمل الخمسين عاما بعد أن اختبأ من الحجاج ثلاث عشرة سنة) مكبلا فى الأغلال لم يلن ولم يهادن ، وقال له : عجبتُ لجرأتك على الله وعجبت لإمهال الله لك قال الإمام الذهبى تعليقا على ذلك : ( لما عَلم فضل الشهادة فى سبيل الله ثبت للقتل ولم يكترث ، ولا عامل عدوه بالتقية المباحة له ) . كان الحرص على الإخلاص والبعد عن الرياء يُبذل فى سبيله الجهد الجهيد ، قال عمر بن عبد العزيز: إنه ليمنعنى من كثير الكلام مخافة المباهاة . ولما سئل أبو حامد الغزالى وهو يحتضر عن وصيته لتلاميذه ومحبيه وهو يفارق الدنيا ويقدم على الآخرة فى وقت يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصى ، لم يزد على كلمة واحدة ، ألا وهى (الإخلاص) . كانوا يريدون حرث الآخرة ولا يطلبون حرث الدنيا ، فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز وابنة عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين وأخت الوليد وسليمان أميرى المؤمنين وحفيدة مروان بن الحكم أمير المؤمنين يسألها زوجها : أعندكِ درهم نشترى به عنبا ؟ ردت : لا ، أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم ، قال : هذا أهون من معالجة الأغلال فى جهنم . كانت خواطرهم وردودهم تدور حول الآخرة ، حج عمر بن عبد العزير مع ابن عمه سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين ورأى الخلائق بالموقف فقال لعمر : أما ترى هذا الخلق الذين لا يُحصى عددهم إلا الله عز وجل ؟ فقال عمر : هؤلاء اليوم رعيتك , وهم غدا خصماؤك ، فبكى سليمان بكاء شديدا . وقيل إنه لما حج معه أصابهم برق ورعد حتى كادت تنخلع قلوبهم، فقال سليمان : يا أبا حفص ،هل رأيت مثل هذه الليلة قط ، أوسمعت بها ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، هذا صوت رحمة الله ، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله ؟ كانوا يتحرجون مما فيه أقل القليل من شبهة الحرام، جاء مسك إلى عمر بن عبد العزيز من بيت المال فسد أنفه مخافة أن يجد ريحها. كانوا يعلمون أن كل غاية بعدها ( بعد ) ليست بغاية ، فكل غايات الدنيا ستنتهى حتما إلى الموت ثم الحساب ثم جنة أو نار ، ولذا يقول عمر بن عبد العزيز : إن نفسى تواقة وإنها لم تُعط شيئا من الدنيا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه ، فلما أُعطيت ما لا أفضل منه فى الدنيا ( يقصد الخلافة ) تاقت إلى ما هو أفضل منه ( يقصد الجنة ) . [email protected] لمزيد من مقالات عبدالفتاح البطة