قال العظيم طه حسين في كتابه الخالد ( مستقبل الثقافة في مصر) الذى ألفه عام 1937: لقد نالت مصر جزءا عظيما من استقلالها . وماذا بعد ؟ وكان يقصد الاستقلال النسبى الذى نالته مصر بعد معاهدة 1936. والآن بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو يحق لنا أن نكرر صيحة طه حسين: وماذا بعد ؟ الثقافة ليست فطرية لكنها تكتسب بالتعليم والمحاكاة والتجربة وهى حصيلة تجارب انسانية. وحسب تعريف اليونسكو للثقافة فهى جميع السمات المادية والفكرية والاجتماعية وتشمل الفنون والآداب وطرق الحياة التى تخلق انسانا عقلانيا، له وعى نقدي، وعن طريقها يهتدى الى القيم ويمارس الاختيار. وهى وسيلة الانسان للتعبير عن نفسه والتعرف علي ذاته كمشروع غير مكتمل، واعادة النظر في انجازاته والبحث عن مدلولات جديدة لها. ولذلك لابد أن تكون الثقافة في موضع القلب من جهود التغيير والتنمية.وعليه يجب النظر الي الثقافة المصرية نظرة نقدية تساعد علي تجديدها. وتحاول هذه الرؤية وضع حلول عملية قابلة للتنفيذ خلال 15 عاما هى المدة المقترحة للمشروع. من المؤكد أن أى امل لتطوير مصرنا العزيزة يبدأ وينتهي بالثقافة. وطوال تاريخها، كانت مصر ومازالت بلدا منتجا وممارسا ومتلقيا ومصدرا للثقافة والفنون بشكل ضخم. اين المشكلة اذن؟ المشكلة في ضعف المنتج الثقافى والفنى أو صعوبته علي عموم الجماهير من جانب وضعف ذوق الجمهور من جانب آخر. وعدم وصول منتجات الفنون الي كل أنحاء مصر من جانب ثالث. ليس هناك شك فى موهبة المصريين الفطرية بالفنون التى أصقلها الزمن والعلم. فأبناء الشعب الذى رسم علي المعابد أيام الفراعنة هو الذى استمر ليصنع العمارة الاسلامية بمختلف طرزها وينسج المشغولات والايقونات في العصور المختلفة حتى وصلنا لعبقريات فردية من الفنانين فى كل المجالات. ونفس الشعب الذى قدم الكاتب الفرعوني بنصوصه النابهة هو الذى طور ابداعه في الشعر الشفهى المرتجل فى الحكايات الشعبية والسير والأساطير وكذلك فى الغناء والموسيقى. لكن ما الذى جعل الشعب يقبل بعنف الان علي الافلام الاستهلاكية الفجة وعلى الاغانى المسفة المسماة أغانى المهرجانات ؟ وما الذى جعل ذوق فئة معينة متردية الذوق يصبح هو الفن السائد. السبب فى رأيي هو أن الدولة منذ السبعينيات صبت اهتمامها الرئيسي بعيدا عن الأقاليم من الريف الى الصعيد حتى النوبة والواحات ومطروح ، واهتمت بشكل اساسى بالفنون الرفيعة مثل الاوبرا والباليه او حتى بالفنون التشكيلية. من المؤكد أن نشاط وزارة الثقافة طوال عصور متعدد وثرى ويحوى الكثير من الانشطة التى تبدو قريبة من الجماهير مثل مراكز الحرف التقليدية والمهرجانات وفرق الفنون الشعبية وغيرها لكن ا تأثيرها ضعيف وغير متراكم وغير قادر على مواجهة تأثير ما يقدم بالتلفزيون مثلا. وقد تركت الدولة السينما نهشا لتجار السوق برداءة بضاعتهم واستغلالهم لجوع الجمهور النفسي وكبته فخرجت كل انواع السينما التجارية السطحية التى تلمع ببريق نجومها بدون أن تكون ذهبا بل عامل أساسى فى تغييب وعى كل الطبقات. وبدلا من أن تصبح السينما محفزا ودافعا ايجابيا للتفكير والعمل أصبحت مخدرا اجتماعيا واستنزافا للموارد وقيمة سلبية وليست قيمة مضافة , وأصبح كل من هو قادر علي الانتاج السينمائى يحجم عن ذلك خوفا من سحب فيلمه من دور العرض لصالح أفلام الشركات الاحتكارية التى لا تتخذ الدولة اى موقف تجاهها. وانحدرت اغلبية أفلام السينما المصرية التى كانت تعرف قديما بتنوعها وتميز انواع منها علي رأسها الافلام الاجتماعية والسياسية. ولم تعد الدولة تنتج أفلاما مثلما كانت تفعل فى الخمسينيات والستينيات فتصنع توازنا بالسوق بعملة جيدة تطرد الرديئة. حتى مشروع دعم السينما الذى عاد مؤخرا فقد ساهم فى انتاج افلاما جيدة لكن عدم انتظامه جعل تلك الافلام لا تؤثر فى تغيير الذوق العام . أما فى الغناء. فبعد زكريا الحجاوي واكتشافاته العظيمة لمطربي الاقاليم مثل خضرة محمد خضر وغيرها. نفضت الدولة يدها عن الأقاليم فاندثرت او اختفت تماما فنون الاقاليم، فاختفى مسرح الجرن وفنون الفلاحين والحكي الشفاهى فى الصعيد ورواة السيرة الهلالية وصانعو خيال الظل والاراجوز والتحطيب وغيرها من فنون الأقاليم. ولولا ارتباط المطربين الشعبيين أمثال ياسين التهامى بالمديح فى المناسبات الدينية والموالد لأنتهى هذا الفن الشعبى هو الاخر من الوجود. أما الطفل فحدث ولا حرج. فبلد مثل مصر وفى حجمها لا يوجد بها فنون موجهة للطفل.ناهيك عن تأثير ذلك علي محو الهوية المصرية بسبب ترك الاطفال للثقافة السائدة فى السوق بابتذالها وانحدار جمالياتها وانعدام قيمها وغياب اى بعد بنائى ايجابى او تقدمى بها.ووجود مسرح الطفل فى مصر بمسرحياته المتواضعة الميزانية وقلة عدد مشاهديه لا يعنى وجود تأثير لها على عموم المجتمع. لكن لماذا لم تلعب الثقافة الجماهيرية فى مصر دورا حقيقيا فى تطور الفنون؟ السبب هو أن الثقافة الجماهيرية تعتمد علي قصور الثقافة التى اصبحت مبانى طاردة للجماهير بسبب عدم وجود محفزات للتردد عليها أو خطط جذب وترويج لها، وسيطرة عوامل طاردة عليها كالبيروقراطية والتشديد الامني المبالغ فيه. بالاضافة الى قلة عدد قصور الثقافة الصالحة للعمل أساسا بالمقارنة لعدد السكان. وقد صرح د جابر عصفور وزير الثقافة السابق ان عدد القصور الجاهزة للعمل لا يزيد على مائة وخمسين قصرا فى كل عموم مصر. بالاضافة الى ان المعادلة تغيرت الان. فبسبب ضيق الوقت وطبيعة الحياة المعاصرة فالفنون هى التى لابد ان تذهب الى الناس لا ان تنتظر الدولة أن يذهب الناس الى عروض الفن وهو ما سيتضح فى الحلقات القادمة من هذه الرؤية. لمزيد من مقالات احمد عاطف