منهجية الكتابة تقتضى تحديد مفهوم المصطلح الذى نناقشه, ومصطلح (الفكر) له أهميته فى واقعنا الحاضر الذى تداخلت فيه المفاهيم واختلطت الموضوعات, والفكر فى أبسط مفاهيمه: (إعمال العقل بالتأمل والتصور والتدبر فى المعلوم للوصول إلى المجهول) وأدوات العقل للوصول إلى هذا المجهول: (التحليل والتركيب والتنظيم) ودون ذلك يتحول الفكر إلى مجرد اندفاع عشوائى حينا, وتجمد حينا, وسذاجة وسطحية حينا ثالثا. ولأهمية الفكر فى مسيرة الإنسان أولاه العلماء اهتمامهم, وحددوا أطره فى ثلاث دوائر, الدائرة الأولى: (الفكر العملى), والثانية (الفكر العلمي), والثالثة: (الفكر الفلسفى) ثم جاءت تحولات العالم بالدائرة الرابعة: (الفكر الديني), والفكر العملى هو الذى يرتبط بالواقع بكل مفرداته من الإنسان والحيوان والنبات, والفكر العلمى هو الذى يبحث فى القوانين التى تحكم هذه المفردات, فللإنسان قانونه, وللحيوان قانونه, وللنبات قانونه, أما الفكر الفلسفى فهو الذى يقدم القوانين الكلية التى تحكم الوجود مطلقا, فللكائن الحى قانونه, وللجماد قانونه, وهكذا, أما الفكر الدينى فهو الذى يربط بين المعقول والمنقول, وينظم العلاقة بين السماء والأرض وعالم الغيب وعالم الشهادة لتحقيق الفلاح فى الدنيا والآخرة. والذى أحب أن أصل إليه من هذا التقديم, أن (الفكر) لايكون مجديا ومؤثرا إلا عند التحامه بالواقع, فإذا رأى الإنسان ظاهرة مادية أو معنوية, ثم مضى إلى حال سبيله, لم يكن مفكرا حقيقيا, لأنه لم يلتحم بالظاهرة, وإنما يستحق هذه الصفة عندما يتوقف أمام كل ظاهرة ليتساءل عن حقيقتها, وكيف كانت, وكيفية الاستفادة منها, والحفاظ عليها أوتطويرها, فلو استمع إلى خبر ما فى هذه الفضائيات التى تمطر علينا أخبارا ليلا ونهارا, أو قرأ فى بعض الجرائد والمجلات التى تتسابق على نشر هذه الأخبار دون أن يتوقف عند كل خبر ليتساءل عن صدقه أو كذبه, وأدلة الصدق أوالكذب, لن يكون ملتحما بالواقع, بل يمكن القول إنه غير مفكر, إن انفصال الفكر عن الواقع يحوله إلى مجرد قدرة كلامية مفرغة من المعنى, والمؤسف أن هذا حال كثير ممن ينتسبون إلى زمرة المفكرين فى هذا الزمن. والحق أن قضية (الفكر) فى تاريخنا المعاصر قد مرت بثلاث مراحل تطورية , المرحلة الأولى بدأت فى أخريات القرن التاسع عشر مع الرواد الأوائل من أمثال: (الأفغانى والكواكبى ومحمد عبده), وأهميتها فى أنها مرحلة مؤسسة, وإن لم تحقق كل المطلوب منها لأن قوى الشعب الجماعية كانت شبه مغيبة عنها سياسيا واقتصاديا, ثم جاءت المرحلة الثانية مع مطلع القرن العشرين, وظهور (النخبة) المقابلة للعامة, ومهمتها قيادة العامة والتأثير فى فكرها ووعيها والحفاظ على هويتها, وقد أنجزت هذه النخبة شيئا من مهمتها عندما ربطت الفكر المعاصر بالماضى ومدى تأثيره فى الحاضر, وعلاقته بالمستقبل, وهذه المرحلة كانت أكثر نضجا من سابقتها , لكنها أيضا لم تؤت كل ثمارها لأن الاستعمار وتوابعه كان مسيطرا ومؤثرا فى توجيه الفكر لخدمته وخدمة أعوانه حينا , وتقييده لتجميد الواقع حينا آخر, أما المرحلة الثالثة, فيمكن تأريخها بانقلاب يوليو 1952 الذى تحول إلى ثورة شعبية حقيقية , وأهمية المرحلة فى أنها حققت الالتحام بين الفكر والواقع, وهو ما أعاد تشكيل المجتمع المصرى تشكيلا جديدا هدفه (تذويب الفوارق بين طبقات المجتمع) بصعود الطبقة الدنيا وهبوط الطبقة العليا ليلتقيا فى منطقة (الطبقة الوسطى). ولم تواصل المرحلة تحولاتها الإيجابية , إذ دخلتها تحولات سلبية أوقفت بعض الإيجابيات السابقة, وبخاصة فى أخريات القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين, إذا ارتفع صوت تيار (الإسلام السياسي) وظهر (أوصياء جدد) على الفكر دون أن يمتلكوا شيئا من مكونات هذه الوصاية, فهم يتحركون عكس الاتجاه دائما طلبا للفرادة الخادعة والتميز الزائف, وحفاظا على قدر من الفوضى التى تسمح لهم بالبقاء فى الصورة دون أن ينتبهوا إلى المخاطر التى يمكن أن تفاجئهم من الأمام أو الخلف أو الجانبين. والحق أن هذه الفئة لم تستطع أن تحجب (الفئة الناجية) تماما, فهناك من يعون مفهوم الفكر الصحيح, يحترمون ماضيهم ويفيدون بما فيه من إيجابيات, لكنهم لا يسكنون فيه, ويفيدون من الوافد فى الحضارة والثقافة, لكنهم لا يذوبون فيه, وكل مسعاهم: إعادة الفكر إلى مساره الصحيح, وتخليصه من الشوائب التى لحقت به فى مراحل الظلام والتخلف. لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب