من المستهجن ، بل ومن الخطر ، أن يواصل البعض الزج باسم القوات المسلحة فى كل خلاف سياسى أو تعارض فى الرأى.. فمن نافلة القول أن هذه المؤسسة الوطنية مملوكة بالكامل لشعب مصر كله، ولا يمكن لأحد أن يدعى امتلاكه لها.. القوات المسلحة خارج حسابات البقالة السياسية الداخلية، وهى أرقى من أن تكون سلعة على رف حزب أو فصيل أو توجه سياسى مهما علا قدره أو ارتفعت حظوظه... لذلك يجب أن تتوقف على الفور تلك «المكارثية» الفكرية التى يمارسها بعض السياسيين والإعلاميين، حين ينقضون على المعارضة باتهامات الخيانة والعداء للجيش، ولا أفهم حقيقة كيف يمكن الربط بين من ينتقد مثلاً بعض مواد قانون التظاهر ، وبين «أعداء» الجيش؟!، أو كيف يستساغ أن نثير فتنة إضافية لأبناء الوطن نقسم فيها الناس بين موالين للجيش ومعادين له؟ وحيث إننى كتبت فى هذا الموضوع كثيراً، وحذرت من مغبة خلط الأوراق فى تلك المناطق الحساسة من الدولة، فإننى لن أكرر ما سبق أن أوضحته من مخاطر، وأكتفى فى هذا المقال بالإشارة إلى بعض مواطن الخلل فى الحوار الدائر حالياً بين الأوساط السياسية، هذا إذا اعتبرناه حواراً حقيقياً! الجيش المصرى يواجه الإرهاب، وهو فى ذلك يؤدى وظيفة أمنية تدخل فى صميم اختصاصه، ولا جدال فى أن الشعب المصرى بكل طوائفه يقف صفاً واحداً خلف الجنود فى هذه المعركة الدامية ، لأسباب عديدة أهمها أن هذا الجيش ليس إلا ملخصاً لشعب مصر، ففيه تمثيل من كل بيت مصرى بوجه عام، ولا يتصور أن يكون هناك خلاف فى هذه الحقيقة.. إلا أن المعركة ضد الإرهاب تتجاوز العمليات القتالية الميدانية، أنها بالأساس سياسة وفكر واقتصاد، فإذا غابت الرؤية السياسية عن صانع القرار، ستكون العمليات العسكرية أشبه بتحرك أعمى يتخبط فى صحراء مديدة بلا اتجاه أو بوصلة أو دليل.. وإذا لم تتسلح المعركة بأدوات الفكر الذى ينازل الفكر المتطرف ويهزمه ، فإننا نفسح المجال لخفافيش الظلام كى تخترق عقول شبابنا بأوهام رومانسية حول الجهاد وكفر المجتمع وحور العين اللائى ينتظرن قائد السيارة المفخخة بعد انتهائه من عملية القتل العشوائى... وإذا لم ننجح فى معركتنا ضد الفقر، فإن هذه الأرض المجدبة المشققة جوعاً وحرماناً سوف تكون الأرض الخصبة لنمو أجيال متتالية من جحافل الإرهاب.. وإذا فشلنا فى مصارعة مؤسسة الفساد التى تعد أقوى مؤسسات الدولة حالياً، فإننا لن ننجح أبداً فى خلق الإلهام والدافع لدى جموع الشعب المصرى كى تتقدم وتبادر وتبدع كى تهزم الإرهاب... إن الفقير والجاهل والذى لا يشعر بالعدل والمساواة لن يهتم كثيراً بمعركة ضد الإرهاب.. لأنه يموت لأسباب أخرى أقل خطورة مثل المرض والعوز والشعور بالظلم والحرمان!!.. هل يعتبر التحليل السابق انتقاداً للجيش أو تقليلاً من أهمية دوره أو انتقاصاً من قيمة الفداء التى يقدمها رجاله الشجعان؟؟.. أى عاقل سوف يجيب بالنفى، لأن ما تقدم هو حماية إضافية ينبغى أن يقدمها المجتمع لجنوده فى الميدان.. ولكننا سنجد من يعتبر هذا النوع من القراءة بمثابة انتقاد للجيش، وسوف تشتعل الفضائيات فى المساء تهديداً ووعيداً لكل من يذهب هذا المذهب، باتهامات تبدأ بأن القائل من «الإخوان «ولا تنتهى بأنه» خائن وعميل وقابض من جهات أجنبية»!! .. عندما يتناول أحد ما يرى أنه انحسار للحريات وتراجع فى مفهوم حقوق الإنسان، لا يسلم من تلك الاتهامات التى يلحق بها دائماً أن ذلك الشخص «لا يحترم تضحيات رجال القوات المسلحة»، وأنه بدلاً من الحديث عن مسائل تافهة مثل «الحريات وحقوق الإنسان» فإن عليه أن ينعى شهداء الجيش.. إلخ، وكأن الجيش حين يحارب الإرهاب لا يحارب فى نفس الوقت من أجل حماية الحقوق الدستورية للمواطن، أو لكأن الحديث عن الحرية يعنى مباشرة الخروج على الضبط والربط الواجب.. من ناحية أخري، فإن اضطلاع القوات المسلحة ببعض المهام التنموية مثل مشروعات البنية الأساسية أو المشروعات الزراعية والصناعية، يعنى أنها فى هذا النشاط تقبل أو ينبغى أن تقبل بالخضوع لمقتضيات المجتمع المدنى، وألا تكون هناك غضاضة فى انتقادات هنا أو هناك مثلاً... تلك الانتقادات لا ينبغى أن يراها البعض اعتداء على المؤسسة العسكرية أو تقليلاً من شأنها.. فلا يمكن مثلاً اعتبار هزيمة فريق «طلائع الجيش» لكرة القدم بأنه هزيمة للمؤسسة العسكرية . إن الذين يزايدون بإبداء الغيرة والحب الزائد للجيش من خلال الإفراط فى استخدام ذلك ضد الآراء السياسية المختلفة يورطون الجيش فى معركة ليست له ولا يجيدها، ويدفعون المجتمع إلى استقطاب غير موجود فى الواقع ولكنهم يخلقونه خلقاً بادعاء أن هناك من هم مع الجيش ، وهناك من هم ضده.. إنها محاولة غير شريفة وغير وطنية لاصطياد المعارضين باتهامات تستغل أوضاع السيولة التى يمر بها الوطن، وذلك نهج خطير لأنه قد ينتقل بالضرورة كفيروس خبيث إلى مناطق لاتزال محفوظة من فتنة الاستقطاب السياسى، ولاتزال تحتفظ بقدر عال من الضبط والربط الذى يحميها من هؤلاء المزايدين .. إن الجيش ربما يكون أهم لاعب فى الفريق حالياً، فى مركز الهجوم الذى يسجل أهدافاً فى مرمى الخصوم، وينتزع آهات الإعجاب من الجماهير، ولكن لا ينبغى أن ينسى أحد أن هناك لاعبين آخرين لا يقلون أهمية، هناك حارس المرمى الذى يحمى العرين من أهداف يسجلها الخصوم، وأمامه خط الدفاع الذى يذود عن الخطوط الداخلية، وخط الوسط الذى يربط بين الدفاع والهجوم، بل والأهم من كل ذلك دور المدرب والجهاز الفنى فى وضع الخطة والاستعداد لكل مباراة وفقاً لظروفها، فأحياناً يكون الهجوم لازماً، وأحياناً أخرى يكون الدفاع أهم ... الجيش لا يستطيع أن يلعب وحده مهما سجل من أهداف.. وعلى الدببة من المتنطعين أن يكفوا عن إيذاء أحبائهم بحجة الدفاع عنهم... لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق