فنان لا يتكرر أقرب الى الأسطورة. عاش حياة حافلة مليئة بالعطاء الفنى متنقلا بين عواصم العالم شرقه وغربه متجاوزا كل الحدود الجغرافية والثقافية. استحق عن جدارة صفة العالمية ليس بمقاييس بل بالمقايس الغربية شديدة الصرامة فى تقييمها للابداع. ولأنه ابن الاسكندرية, تلك المدينة الساحرة التى كانت قديما مركزا للاشعاع الحضارى بتراثها الثقافى الثرى المتنوع أو«البحر متوسطى» والمحتضن لمختلف الأديان, فقد حمل قيمها فى تكوينه وشخصيته دون تكلف أوافتعال. عمر الشريف لا يحتاج الى تكريم, فاسمه وحده كفيلا بتكريمه. لا أدعى معرفته عن قرب, فلم ألتق به سوى مرات معدودة قُبيل رحيله, ولكننى عرفته جيدا مثل الملايين غيرى كشخص قريب جدا من خلال «الشاشة». فمن منا لا يتذكر «فى بيتنا رجل» أو«نهرالحب» رمزا الرومانسية الوطنية والعاطفية, التى كانت عنوان زمن الخمسينيات والستينيات, و«إشاعة حب» و«أيامنا الحلوة» و«سيدة القصر» وأفلامه مع يوسف شاهين (صراع فى الوادى وصراع فى المينا), والكثير من الأفلام الأخرى التى شكلت وجداننا, إنه نفس زمن عبدالحليم وأحمد رمزى ورشدى أباظة وأحمد مظهر وسعاد حسنى , ولذا فإن الحزن على رحيل عمر الشريف يحمل فى طياته حنينا الى هذا الزمن برومانسيته الضائعة اليوم. ومثلما ترك «بصمة» لا تُنسى فى وطنه مصر فقد جسد أيضا أدوارا تُمثل علامات فارقة فى تاريخ السينما العالمية. ففى بدايات المشوار كان «دكتور زيفاجو» الذى لعب فيه دور البطولة, وكان من أجمل وأروع الأدوار التى نال عنها «أفضل ممثل», وحاز الفيلم على خمس جوائز أوسكار وهومأخوذ عن رواية الشاعر والأديب الروسى بوريس باسترناك, الذى استحق «نوبل» عن نفس الرواية لتضعه فى مصاف عظماء الأدب الروسى (بوشكين, تشيكوف, تولستوى), والقصة كما هو معروف تعرض للتناقضات التى تمر بها الثورات وما تخلفة من معاناة للمجتمعات والأفراد معا. ولقيمة الفيلم فقد تحول مؤخرا الى مسرحية عرضت على «البرودواى» أشهر المسارح الأمريكية. ومن قبله كان «لورانس العرب» (أول افلامه العالمية) الذى شارك بطولته مع بيتر أوتول وأنتونى كوين ومن إخراج ديفد لين مُكتشفه ونفس مخرج «زيفاجو», ويروى أحداث الثورة العربية الكبرى التى قادها الشريف حسين أثناء الحرب العالمية الأولى بتداعياتها على المنطقة. وقد تم تصنيف الفيلم ضمن أفضل مائة فيلم فى القرن العشرين وكان ترتيبه الخامس. وفى نهايات المشوار كان تجسيده لشخصية «المسلم» الذى يعيش فى فرنسا ويتخذ من القرآن دستورا لحياته بشكل يقترب من «الصوفية», وتنشأ علاقة انسانية بينه وبين فتى يهودى يدعى مومو, ومن خلال الحوارات بينهما ينجح الأول فى توصيل الرسالة السامية للاسلام بمضمونها الانسانى المتسامح, وذلك فى الفيلم الفرنسى «مسيو ابراهيم وزهور القرآن» الذى استحق عليه «سيزار» أعلى جائزة فرنسية, والأهم أنه فيلم يُعلى من شأن الاسلام بصورة جديدة تماما على السينما العالمية قد تكون هى الأولى, ولم يكن أفضل من عمر الشريف لتجسيد تلك الشخصية ومخاطبة الغرب بلغته وإحداث أثر قد يفوق عشرات المقالات والخطب السياسية, ولكن للأسف لم يحظ الفيلم باهتمام يُذكرعندنا باستثناء كتابات قليلة! وما بين البداية والنهاية هناك العشرات من الأعمال المتميزة داخل مصر وخارجها. هذه فقط بعض الأمثلة الرمزية لما يمثله كفنان مصرى عالمى ولكنه ليس مقالا فى النقد الفنى, إذن فلماذا أكتب عن عمر الشريف؟ أكتب عنه لأن العلاقة بين الفن والسياسة هى علاقة وثيقة لا تنفصم, فالأخيرة ليست مقصورة على العلوم السياسية المجردة, كما أن التحولات الكبرى التى عرفتها - ومازالت - المجتمعات المختلفة فى التغيير والتحديث والنهضة والتنويروالدفاع عن القيم الانسانية العليا فى الحرية والعدل والمساوة ومواجهة التطرف كان الابداع والمبدعين هم روادها فى الأدب والرواية والسينما والمسرح والشعر وجميع ألوان الفنون الأخرى, بل قد يكون الفن فى كثير من الأحيان هو الأسبق فى القدرة على التغيير بما يمتلكه من أدوات جمالية فى التعبير تنفذ أسرع وبطرق أعمق إلى قلب وعقل الجمهور أو المجتمع بالمعنى الواسع. فليس أقل من إعطاء الفن الجاد والفنانين الكبار المكانة التى يستحقونها. أكتب عنه أيضا بعد مقارنة ما كُتب عن عمر الشريف فى الغرب بعد رحيله تمجيدا لأعماله وتفرده واعتباره العربى الوحيد «العالمى» وبين ما حفلت به كثير من الأوساط الاعلامية ومواقع التواصل الاجتماعى من جدل عقيم حول حقيقة «ديانة» عمر الشريف وصحة إسلامه (رغم أن من يرجع ببساطة إلى الموسوعة العالمية سيعرف أنه ولد فى أسرة مسيحية كاثوليكية وأن والدته كانت من أصل يهودى ولكنه اعتنق الاسلام فى منتصف الخمسينيات وبقى عليه حتى نهاية حياته) وما كان يجب أن تكون هذه هى المحطة التى نتوقف عندها، فقد عشق المصريون مثلا نجيب الريحانى وكان مسيحيا ولم يغير ديانته. إن اختزال فنان ذى قامة كبيرة وحصره فى هذه الدائرة الضيقة فيه ظلم وتمييز وتفتيش فى النوايا نسعى للتخلص منه خاصة أننا نعيش فى عالم بات التطرف والارهاب وتكفير الآخر حتى ولو كان مسلما هو سمة من سماته الأساسية. ونفس الشىء ينطبق على الحياة الشخصية التى من المفترض ألا تخص سوى صاحبها, فجميعنا كبشر يخطئ ويصيب فى حياته ولكن هذه الزاوية ليست هى المعيار الأساسى أو الوحيد فى الحكم على الشخصيات المرموقة أوالمبدعة، فنحن دائما ما نتحدث عن قيم التسامح واحترام الفرد والمواطنة وغيرها ثم لانجدها كواقع أو ممارسة. إن مسألة «القوالب الجاهزة» التى يجب أن يُوضع فيها الجميع وإلا محونا إنجازاتهم وإسهامتهم فى الحياة لابد من إعادة النظر فيها، والطريقة التى تم بها تناول «سيرة» عمر الشريف هى «نموذج» لكل ذلك وليس هذا مانريد ان ننقله للأجيال الجديدة، أى أن يستغرقهم الاهتمام بهذه الأمورعلى حساب الثقافة والفن لتكون نوافذهم مفتوحة على العالم. وأخيرا كان تجاهل الدولة له وقت رحيله - ربما عن غير قصد - فكثيرا ما كان يُستعان به فى مناسبات مختلفة لإعلاء اسم مصر فى الخارج, ومعروف أن الرئيس الراحل أنور السادات قد كلفه مباشرة ببعض المهام السياسية بعد نصر أكتوبر وأثناء مفاوضات السلام. قد تكون هناك خلافات فى بعض وجهات النظر السياسية أو المواقف وهو أمر معتاد فى السياسة ولكنه لا يلغى التاريخ الفنى لعمر الشريف الذى سيظل باقيا ولن نقول له وداعا. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى