لا أعرف كيف اخترقني سهم الحب بهذا العنف الهادر وأنا عيل لم يطلع من البيضة، ولا يعرف حقاً الفارق بين الألف وكوز الدرة؟ كيف تحولت بقدرة قادر إلي سمكة بلطي تخرج من بحر البراءة وقد علقت السنارة بفمها الصغير فيتألق لونها الفضي في أشعة الشمس قبل أن يُرمي بها علي قطعة من الصاج المحمي وتُشوي وهي لا تزال حية علي نار الغرام الموقدة. كنت أبلغ من العمر ست سنوات... نحيلاً مثل الحديدة التي تحرك بها أمي أرغفة الخبز المرحرح... مرتاح البال لا يؤرقني شيء في الوجود سوي الإمساك بواحدة من تلك الفراشات المراوغة التي لا أكف عن مطاردتها في غيطان البرسيم.. أذهب إلي المدرسة مرتدياً شبشب زنوبة وبيجامة من الكستور يحصل عليها أبي من متاجر «الكساء الشعبي».. تقتادني أختي التي تكبرني بعامين ثلاثة إلي مقر العلم والتعليم كل صباح كما يقتاد عشماوي متهماً يرتدي البدلة الحمراء إلي حبل المشنقة... لم يكن ثقب الأوزون قد ظهر بعد، ولم تكن زيادة حرارة كوكب الأرض تحتل صدارة جدول الأعمال في مؤتمرات البيئة الدولية، وبالتالي كان المناخ في مصر لا يزال معتدلاً ربيعاً، بارداً شتاء، وكانت تيارات الهواء «الصاروخية» تصفع وجوهنا نحن ملائكة الله الصغار عبر زجاج الشبابيك المكسور في فصول المدارس الحكومية. ورغم أن هوجة الانفتاح كانت في عزها فإن الدولة في نهاية السبعينيات كانت لا تزال تشعر بالحد الأدني من حمرة الخجل تجاه الفقراء الذين يشكلون الأغلبية العظمي من الشعب، ولم ترفع بعد الراية البيضاء في مواجهة ضغوط السادة في البنك الدولي الذين كثيرا ما أمروا برفع الدعم عن محدودي الدخل «هؤلاء الذين أصبحوا في الألفية الثالثة معدومي الدخل والحمد لله فهدأت تلك الضغوط»... المهم أن هذا الحد الأدني من «حمرة الخجل» انعكس فيما كان يسمي «الوجبة المدرسية» التي كانت تُوزع علينا يومياً وبالمجان، وهي عبارة عن رغيف ناشف مثل البلاستيك وقطعة كبيرة من جبنة المثلثات تشعر حين تتذوقها أنها مخلوطة علي نحو ما بالتراب. لمزيد من مقالات محمد بركة