كلما مر يوليو على حياتى ، فالذاكرة تتوقف على مساء السادس والعشرين من يوليو 1956 لحظة إغلاق ستار مسرح سيد درويش السكندرى فجأة ، وثم إضاءة أنوارالصالة لتنفتح فتحة بسيطة فى الستارة يطل منها الأستاذ الدكتور السعيد مصطفى السعيد رئيس جامعة الإسكندرية ليعلن اصدر جمال عبد الناصر الآن قرارا جمهوريا بتأميم شركة قناة السويس لتصبح شركة مصرية. والتهب المسرح بتصفيق الطلبة الذين كانوا مدعوين لمشاهدة مسرحية ٍٍِِِِِِِ«ثمن الحرية» ، وهى التى تحكى عن قدرات الشعوب على تطهير نفسها من أى فساد يقيد قدراتها على الانطلاق. وطبعا لم يعد هناك أدنى فرصة لمواصلة العرض المسرحي، فقد ضجت القاعة بالتصفيق، ولا أعلم من قام بفتح أبواب المسرح، لنجد الإسكندرية بأطياف سكانها، وهم من سبق لبعضهم التعامل جمال عبد الناصر كحاكم سرق من مصر أحزابها ، وادعى البعض أنه ملأ الشوارع بالجواسيس ، هاهم أهل الثغر يخرجون لتحية صدور قرار التأميم من نفس الميدان الذى شهد قبل عشرين شهرا محاولة الإخوان المتأسلمين اغتيال جمال عبد الناصر فى أكتوبر 1954 . هذه المدينة التى أنجبت محمد كريم أول من قاوم احتلال فرنسا للمحروسة ، وأهدت مصر عبد الله النديم الذى شاء أن يغسل أحزان انكسار الثورة العرابية بإصلاح التعليم ، فأسس جمعية العروة الوثقى التى رفضت فى آن واحد احتلال إنجلترا لمصر ، وتبعية مصر للإمبراطورية العثمانية ، وهو من شاهد كيف أغلقت عشرات المصانع الصغيرة أبوابها ، ليجلس عمالها متعطلين على المقاهى ، ولتزدحم شوارعها بحثالات بشرية قادمة من أوروبا بدعوى إلحاق مصر بحضارة المتوسط ، وليعيد للذاكرة حقيقة لم ينسها أبدا منذ أن كان طالبا بالأزهر ، أن العلم بفنون الحياة هو معيار الرقى ، وكأنه استلهم روح رفاعة الطهطاوى فأسس مدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية وثالثة صناعية . فعل النديم ذلك بعد أن عانى من انكسار الثورة التى كان خطيبها وكاتب صحفها ، وبعد اختفاء عن أعين الاحتلال لسنوات عديدة . لن أنسى أبدا زحف جموع أبناء الإسكندرية إلى ميدان المنشية الذى أمم منه جمال عبد الناصر قناة السويس ، كان طريق الحرية وشارع صلاح سالم المؤديان إلى ميدان المنشية عبارة عن نسيج بشرى متماسك لكن لم يدس أحد على قدم أحد . ولم يسقط أحد فى إغماء ولم نسمع عن سرقة واحدة فى هذا الزحام . لن أنسى ملامح فنان الإسكندرية الأشهر سيف وانلى ومعه شقيقه أدهم . ولم يكن أحد وسط الزحام يهتف إلا بجملة عاش جمال عبد الناصر. وهاهو ميدان المنشية يرفع جمال عبد الناصر إلى أعلى مكانة ليس فى القلوب فقط، ولكن فى الثقة فى قدراتنا على بناء مستقبلنا . وهاهى سنوات تمر ليأتى سادس وعشرون من يوليو جديد ، لنجد قرابة الثمانين ألف إنسان مصرى قد قاموا بحفر قناة سويس موازية للقناة الجديدة ، حفرها المصريون الجدد بأسلوب يختلف عن أسلوب الحفر الأول ، فلم يكن هناك خديو يعشق المكرونة ويطلق من يسرق الشباب من البيوت ليعملوا فى السخرة ، ولم نسمع عن أحد قد مات ظمأ أو وباء ، ولم نشهد وقائع مثل التى سجلها صلاح جاهين فى رائعته شفيقة ومتولى ولم نجد شقيقا قتل شقيقته التى أغواها ابن عمدة ثم ورثها أحد سماسرة بيع الرقيق البشرى . تم حفر القناة الجديدة بنقود جمعتها قيادة مصر من بسطاء الوطن وأبناء طبقته الوسطى لتؤمن مستقبلا مختلفا لمن يعيشون حاليا ومن يأتون مستقبلا . كانت القناة الأولى قد تم حفرها بالقهر والكرباج, أما القناة الجديدة فقد تم حفرها بالإرادة والحلم . وإذا كان عبد الناصر قد استرد القناة الأولى من أنياب الاستعمار فقد كانت ثقته هائلة فى جدارة المصريين على صناعة المستقبل ، تلك الثقة ألقت بإمبراطوريتين إلى زوايا الدول العادية ، فإنجلترا بعد تأميم السويس وفشل عدوانها مع شريكتها فرنسا لم تعد هى إنجلترا التى لا تغيب عنها الشمس ، وفرنسا التى كثيرا ما تطاولت على فكرة العروبة رفضا لتحرير المغرب العربى ، فرنسا رضخت لحقائق العروبة فخرجت من الشمال الإفريقى ، فكان تأميم القناة عام 1956 بوابة حرية وكرامة لعالم عربى مختلف . وها نحن ذا نحفر قناة جديدة يتغير بها مزاج الكون ، فتصبح التجارة أكثر نشاطا ، ويصبح التقارب أكثر جدوى ، ويمكن لشعوب الأرض أن تجد على ضفتى القناة الجديدة ما يحقق ازدهارا منتجا . وتأتى إلى خيالى الآن صورة الراهب هاجامى رئيس معبد ميجى باليابان ، وكان الحديث معه فى أغسطس 1986عن السلام العالمى فى احتفالات اليابان بذكرى هيورشيما ونجازاكى ، وجاء تعمير تعمير ضفتى القناة كمجرد حلم وكان شاهد الحوار العالم النفسى الجليل محمد شعلان ، قال الراهب هاجامى لابد أن تكون لليابان فرصة لنقل عدد من مصانعها إلى سيناء لتكون قريبة من أوروبا بدلا من الإنتاج بعيدا عن الأسواق . وكان هاجامى يرى أن ثروة الموقع المصرى يمكن أن تحقق عائدا يكفل حياة لائقة لكل المصريين . لم يكن هاجامى يعلم أن ثلة من عشاق السلطة تزاوجوا مع عشاق الثروة ، فتم تجريف الأمل من قلوب أجيال إلى أن حدث بركان الخامس والعشرين من يناير ليتواصل مع فيضان بشرى فى الثلاثين من يونيو ليأتى تفويض الملايين لعبد الفتاح السيسى مع المقاتلين للقضاء على إرهاب شاء أن يلعب دور القفاز لقوى تريدنا مجرد صيحات من صندوق قمامة البشرية ، وينهمر من قلب الفيض المصرى حلما بالقناة الجديدة ليكتب التاريخ سطورا لم تصنعها سخرة بل صنعتها إرادة . ويا جمال عبد الناصر يامن وثقت ذات نهار فى أن مصر قادرة على إدارة قناة السويس ، ها نحن بعد سنوات من تأميمك لها وبعد سنوات من معارك عسكرية علمنا فيها الكون أساليب قتال لم يكن العالم كاشفا لها أو مكتشفا لقدراتها . ويا جمال عبد الناصر يامن تشكل قلبى على صورتك ، وكنت أنزعك من قلبى حين أغضب منك أو أريد عتابك ، ولكن ما أن تترك يدى صورتك ، حتى يعود قلبى على هيئتك . يا جمال عبد الناصر من نفس أبناء الجيش الذى شئت إعادة بنائه بعد نكسة 1967 ، هاهى قيادات جاءت لتستخلص مصر تارة من حكم مترهل افترستنا فيه السلطة المدنسة بزواجها من الثرورة ، وتستخلص مصر تارة أخرى من حكم أراد بيعنا كعبيد جدد فى خلافة رعناء ، من نفس أبناء هذا الجيش صحت إرادة مصرية لا تعرف الثرثرة بل تتقن الإنجاز . ومن تراب ضفتى القناة التى سبق وشربت من دماء الشهداء علينا أن نشعل شموس إرادة لا تسمح للتاريخ بتجاهل قدراتنا على صناعة مستقبل مختلف عن ترهل طال كثيرا . باختصار: تاريخ المصريين يحكى أنهم أول من أهدوا البشرية فكرة عن التحضر، وهاهو التاريخ يعود من جديد ليرفع يده تحية لأهل المحروسة الذين سبق وأهدوا الكون فكرة عن جدارة بناء الحياة اللائقة . لمزيد من مقالات منير عامر