في زماننا هذا الذي نعيش فيه غابت عنا قِيمٌ ما أحوجنا إليها، واختفت شِيمٌ ما أحوج مجتمعنا إليها، وها نحن نرى جيلا يكاد يفتقد المروءة، جيلا منشغلا بنفسه وتحقيق مآربه وأهدافه، منكفئا على نفسه وكأنه نشأ في معزل عن مجتمعه. وربنا تبارك وتعالى أخبرنا في قرآنه أنه قَسَمَ المعيشة بينا وميّز بعضنا على بعض وجعل بعضنا في خدمة بعض، فما أحوجنا إلى استحضار هذه المعاني، فقال سبحانه: {... نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. والإنسان كما قال عنه علماء الاجتماع كائن اجتماعي بطبعه، ومن ثم فلا يستطيع العيش بمعزل عن بني جنسه، ولا يستطيع أن يستغني عن خدماتهم والتعاون معهم. إلا أننا في زماننا هذا صرنا نجد شبابا نسوا المروءة أو تناسوها فلا هم لهم إلا ما يريدون وما يشتهون وهذا تصرف ينبئ بالسوء ما لم نسعَ لتغييره، تجد في مواصلاتنا العامة شابا يجلس على الكرسي وأمامه شيخ كبير يكاد أن يتهاوى من الإرهاق والتعب والشاب يكاد يغلق عينيه ويلتفت عن مساعدة هذا الشيخ الكبير والوقوف له، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على انعدام المروءة والشهامة، وأيضا لو وقفت في طابور تجد من يدخل أمامك ولا يراعي نظاما ولا احتراما، تصرفات في منتهى الهمجية!! تجد المروءة منعدمة عند كثير من موظفينا، حيث يضيعون الوقت ويأتون متأخرين إلى أعمالهم ولا يتعاونون مع زملائهم، ويرى أمامه جمعًا من الناس ينتظرونه إلا أنه يماطل ويضيع الأوقات ويتمسك بالروتين القاتل، ويمعن في تعطيل الناس وإيقاف مصالحهم ويتفنن في الطلبات والاشتراطات التي ربما تكون غير مطلوبة، ما دفعه لهذا إلا الكبر والعنترية والتعالي على مخلوقات الله، فما أحوجنا إلى العدول عن هذا السلوك المعوَّج؛ كي نتقدم ونرتقي بأمتنا. نجد مليارات الجنيهات ينفقها الأثرياء في حفلات اللهو والعبث والرقص ويقدمونها هدايا للمغنين والمغنيات والراقصين والراقصات، ولا يعاونون فقيرًا أو محتاجًا، فكم من مريض طريح الفراش حال بينه وبين إجراء جراحة له قلة ذات اليد، وكم من طالب علم توقف مشروعه العلمي بسبب فقره وعدم وجود من يقف بجواره أو يعاونه، وكم من تلميذ نابغ ترك التعليم بسبب انعدام من ينفقه عليه!! وللأسف عندما يموت أو يمرض فنان أو فنانة تجد من يسارعون في تقديم الخدمات وتوفير الطائرات لتسفيره أو تسفيرها للخارج للعلاج أو لنقل الجثمان لمكانٍ ما، ولكن آلاف العلماء يمرضون ويموتون دونما أن يسمع بهم أحد أو يقوم بمعاونتهم أحد أو يتبرع لهم أحد بطائرة كي تنقلهم إلى هنا أو هناك!! ونحن لا نعترض على خدمة أي إنسان مسلمًا كان أو غير مسلم، الاعتراض والاستغراب أن يكون الاهتمام لفئة من الناس دون فئة، وهذا بسبب انعدام المروءة وضعف الوازع القيمي عندنا، فصار حالنا كما قال الشاعر: أتيتُ على المروءة وهي تبكي ** فقلت عَلامَ تنتحبُ الفتاةُ؟ قالتْ لماذا لا أبكي وأهلي ** دون خلق الله ماتوا لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر