ثمة انقسام فى العقل المصرى حيال التعاطى مع الحقيقة الإيرانية وذلك بين تيارين لكل منهما جذوره فى السلطة الرسمية وامتداداته فى الفكر السياسي، أولهما يبدى تشككا فى نواياها ولا يرغب فى التقدم نحوها، وثانيهما يؤكد ضرورة التقارب معها، باعتباره مدخلا لتحقيق استقلال إستراتيجى للمنطقة يعكس خصوصيتها الحضارية، فى مواجهة الهيمنة الغربية والعدوانية الإسرائيلية، ومن ثم لاستعادة الدور الإقليمى المصري. التيار الثانى لا يغفل عن وجود اختلافات فى الرؤي، ولكنه يضعها فى سياق التنافس الإستراتيجى المشروع، ويسعى إلى اختبار ممكنات التنسيق والتفاهم بين البلدين، أما التيار الأول فيرى فى تلك الاختلافات تناقضا جذريا، يستعصى على الحل ويتأبى على التوافق. ولعقود طويلة مضت قبل 25 يناير، انتصر التيار الأول، مدعوما بالاستثمار الغربى فى إفساد العلاقة بين البلدين، عبر أدوات ووسائل الضغط المتاحة ل »المركزية الغربية«، التى طالما روجت صورة سلبية للبلد الذى كان يشهد تحولات كبرى تجعله أكثر وعيا بأصالته الحضارية، وأعمق رغبة فى قيادة المنطقة بعيدا عن النفوذ الغربي. وقد نجحت الولاياتالمتحدة تحديدا فى هذه المهمة عبر آليتين متكاملتين الأولي: شيطنة هذا الطرف المريد لاستقلاله الحضاري، والثانية: احتواء الطرف الآخر الذى افتقد، مؤقتا، لأصالة الرؤية الحضارية، حتى لا يتكامل عطاؤه مع الطرف الآخر، وقد حدث هذا على الأقل مرتين، وبإلهام حدثين ثوريين: الحدث الأول: يخص مصر، ويتمثل فى ثورة يوليو، ومشروعها التحررى الذى بدا نقيضا كاملا للمشروع الاستعمارى الغربى منذ حرب السويس، بينما كانت إيران الشاه قد دخلت فى صداقة مع الولاياتالمتحدة، ومن ثم إسرائيل، وصارت عضوا فى سلسلة الأحلاف الغربية حول الاتحاد السوفيتي، وضد المشروع العربى لمصر. ولذا ساءت العلاقات بين البلدين فى النصف الثانى للخمسينيات حتى قطعت تماما عام 1960، ولم يكن صعبا آنذاك أن ترسم الألة الدعائية الغربية صورة سلبية لمصر الناصرية، كما لم يكن هناك قيد على نفاذ تلك الصورة إلى النخبة الإيرانية الضالعة فى الإستراتيجية الغربية. وعندما جاء الرئيس السادات إلى الحكم، وتبنى رؤية نقيضة للعالم، كان ثمة عقد من الصداقة بين البلدين ولكنه انتهى على نحو درامى بخلع الشاه فى إيران مع هبوب عاصفة الثورة الإسلامية، واغتيال السادات فى مصر بفعل عاصفة إرهابية، حيث بدت المنطقة كلها وكأنها فى حالة بحث متوتر عن أصالتها الحضارية. والحدث الثاني: يخص إيران ويتجسد فى ثورتها الإسلامية التى دفعتها إلى تبنى مشروع سياسى انقلابى على السيطرة الغربية، اعتبر الولاياتالمتحدة »شيطانا أكبر«، بينما وفرت أزمة الرهائن المحتجزين فى السفارة الأمريكية بطهران مادة مثالية أجادت الدعاية الغربية استغلالها فى صناعة صورة شيطانية لإيران، لم تجد ممانعة من قبل النخبة الرسمية المصرية التى أرادت الانتقال إلى الفضاء الموالى للغرب. وهكذا تقارب البلدان وتباعدا عبر الحاجز الغربي، ووقعا فى أسر صور نمطية صاغتها الدعاية الغربية، فانقطع السبيل أمام تواصلهما، وحرم العالم الإسلامى من تشارك اثنتين من أبرز كتله الإستراتيجية، وأعرق حضارات العالم، ولو حدث ذلك لتغيرت مصائر المنطقة التى تجسد »القلب الجيوسياسى للإسلام«. واليوم يتبدى البلدان على أعتاب حدث/ تحول ثالث جديد يتخلق فى رحم المنطقة فثمة طموح مصرى تلى 25 يناير إلى الخروج من أسر المركزية الغربية والهيمنة الأمريكية، واستئناف قيادة المنطقة استراتيجيا وفى الوقت نفسه، وربما بهدف ممانعة تلك الرغبة، ثمة طموح غربى لاحتواء إيران من جديد ضمن الفضاء الغربي، وذلك عبر الاتفاق النووى وبينما تسوء علاقة الولاياتالمتحدة بمصر، ويعتورها الشك والغموض، وتتباطأ المساعدات العسكرية بالذات، وتبزغ علامات الانفراج فى علاقة إيران بالغرب، ويجرى الحديث عن رفع العقوبات الاقتصادية ومشروعات التسلح وتدفق الاستثمارات. ومن ثم يبدو وكأن البلدين فى حالة ترحال عكسى من النقيض إلى النقيض داخل فلك المركزية الغربية، وفى خدمة الإستراتيجية الأمريكية، على حساب مصالح المشرق الحضارى الإسلامى الذى يقع البلدان فى القلب منه، مما يفرض على كليهما ضرورة المراجعة الذاتية بهدف التلاقى على قاعدة الشراكة الحضارية والعقدية. تفرض هذه المراجعة على مصر توسيع هامش رؤيتها لتستعيد صفاءها القديم الذى هجرته، وأن تزيد مساحة الأمل الذى فقدته، ظنا منها أن قوامها قد تقًزم فلم يعد يلبى مطالب الارتقاء، وأن جسدها قد وهن فلم يعد يلبى طموح القيادة ولذا يجب ألا تخشى المذهب الشيعى لأنها بلد الأزهر، ولا الهيمنة الإيرانية لأن كتلتها الحيوية تعادل الكتلة الإيرانية مرة ونصف، ولا البرنامج النووى الإيرانى حتى لو كان عسكريا، لأن احتمالات استخدامه ضدها شبه معدومة، قياسا إلى نظيره الإسرائيلي، حيث العداء الكامل والتناقض المطلق بل ربما كان امتلاك إيران لهذا السلاح بمثابة بداية لتعامل دولى جدى مع فكرة النزع المتبادل له، فمن دون خشية إسرائيلية من احتمالات انتشاره، واستخدامه ضدها سوف يبقى الحديث عن إخلاء المنطقة منه محض هراء سياسى وثرثرة دبلوماسية. وهكذا يتعين على مصر الاندراج فى حوار مباشر وتفاوض شجاع مع إيران بدلا من اللهاث خلف ذيولها، والتورط فى حروب مذهبية بالوكالة، القاتل والقتيل فيها عرب. وإذا كانت مشاركتها فى »عاصفة الحزم« ضرورة استراتيجية لحماية باب المندب، وموقف مبدئى لدعم أشقاء الخليج، فالواجب عليها تعريف الصراع سياسيا لا مذهبيا، ولعب دور الوسيط بين الحوثيين وإيران من جانب، ودول الخليج خصوصا السعودية من جانب آخر، مع توظيف علاقتها المتنامية بروسيا فى تفعيل تلك الوساطة، تسهيلا لحل أزمات المنطقة الأخرى. وفى المقابل تفرض هذه المراجعة على إيران حتمية التنبه إلى حكمة التاريخ التى تدلنا إلى اتجاهات معقولة لدورة الأفكار تقول: كل فكر مثالى يتعالى على الواقع، يتعرض للانحراف فى لحظة تحولية ما، تتنامى عندها نزعته الصدامية، وهنا يكون فشله أكثر احتمالا، وتراجعه أكثر عمقا، ومن ثم عليها أن تتوقف عن أحلام الهيمنة الإقليمية بذريعة تصدير ثورة إسلامية هى أصلا مأزومة، أو هيمنة قومية هى فى الواقع غير ممكنة، وأن تحترم ليس فقط (الوجود الحضارى لمصر داخل حدودها)، بل وكذلك دورها الإقليمى فى محيطها، وما يرتبه من إحساس عميق بالمسئولية الأخلاقية والإستراتيجية عن الكتلة العربية، وفى القلب منها دول الخليج، فمن دون ذلك سيتعذر اللقاء وتنهدم الجسور، ويخسر مشرقنا الحضارى، بينما تتأكد «المركزية الغربية» وتكسب إسرائيل وحدها. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم