علينا أن نعترف بمواطن قوة الإرهاب، وألا نكتفي بترديد عبارات التبشير بسرعة الانتصار، فليس بالأدعية أو رفع المعنويات فقط يمكننا هزيمته، وإنما بمعرفة هذا الجيل الجديد من فيروس الإرهاب المستشري، والذي تمكن من تعديل أساليبه، ليكتسب مناعة ضد طرق المكافحة المعتادة، وتوطن في مناطق بعيدة عن الأنظار، منحته بعض المزايا في التخفي والتكاثر. وليس مشينا أن نعترف بمواطن ضعفنا وأخطائنا، التي يستغلها الإرهابيون، لأن التعامي عنها يسهل لهم استثمارها، بينما كشفها يسهل علاجها، ويحرم الإرهاب من الاستمرار في استخدامها. إن موجة الإرهاب الجديدة التي تواجهها مصر هي الأخطر في تاريخها، وتفوق موجة إرهاب التسعينيات بكثير، والتي شهدت عمليات اغتيال رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق، والمفكر فرج فودة، ومحاولات اغتيال وزير الداخلية الأسبق حسن أبو باشا ومكرم محمد أحمد ونجيب محفوظ وعدد من القيادات الأمنية إلي جانب عمليات قتل ومهاجمة السياح الأجانب في العديد من المواقع. لقد اكتسبت الجماعات الإرهابية مهارات جديدة، نتيجة الاحتكاكات بجماعات إرهابية متنوعة من جنسيات عديدة، من شيشان إلي أوروبيين وأمريكان، واستطاعت استغلال الطفرة التكنولوجية في تصنيع واستخدام المتفجرات، ويجري نقل هذه الخبرات إما بالتدريب المباشر في أماكن تقع تحت سيطرتهم في العراقوسوريا وليبيا، أو من خلال التواصل عبر الإنترنت، ومن المعروف أن آلاف المصريين توجهوا إلي القتال في سورياوالعراق، معظمهم أثناء فترة حكم الإخوان. لقد جاءت عملية سيناء الأخيرة باستخدام تكتيك سبق تجربته كثيرا في كل من سورياوالعراق، بأن تتقدم سيارات مفخخة يقودها انتحاريون، تنفجر في الكمين، لتفتح الطريق للمهاجمين. أما عملية اغتيال النائب العام، سواء كانت بسيارة مفخخة تم تفجيرها عن بعد، أو شريط لاصق للمتفجرات، فهي من الأساليب التي اكتسب الإرهابيون خبرة كبيرة فيها من إخوانهم في الخارج. جاءت موجة الإرهاب الجديدة بعد استمرار جماعة الإخوان في الحكم لنحو عام، تمكنوا خلاله من الاطلاع ومعرفة الكثير من الأسرار، وجندوا أو دسوا عملاء لهم في بعض المؤسسات المهمة، وكانت عملية «الأخونة» تجري علي قدم وساق، وكأنهم في سباق مع الزمن. كما لا تزال جماعة الإخوان وحلفاؤها من الجماعات التكفيرية تحظي بغطاء ودعم إقليمي ودولي غير مسبوق، «ولو أنكر الداعمون»، لتنفيذ مخطط تدمير وتقسيم المنطقة، خاصة مع فشل أمريكا في الاحتلال المباشر للعراق، واتضح أنه مرتفع التكلفة وشديد الخطورة، فكان الاعتماد علي الأدوات المحلية، وستظل جماعة الإخوان وحلفاؤها تحظي بالدعم والرعاية الدولية حتي يفشل المخطط تماما أو يحقق النجاح، وهو ما لم يحدث حتي الآن، وإن كان المخطط قد تلقي ضربات موجعة، أشدها إقصاء جماعة الإخوان عن حكم مصر ثم تونس، وعدم سقوط سوريا، وترنح حكم أردوغان في تركيا. لقد نمت جماعة الإخوان بسرعة كبيرة في العقدين الأخيرين، بفضل مشروعاتها الاقتصادية، وتقديم القروض أو الهبات لأعضائها لإقامة مشروعات صغيرة في المدن والريف، تجمع بين أدوار اقتصادية وسياسية واجتماعية، حيث توظف أعضاءها أو المرشحين للانتماء، وتباشر حل مشكلاتهم، بل توفر لهم الحماية والدعم، وترعي حتي دراستهم وزواجهم ومشكلاتهم الحياتية، فخلقت نموذجا صلبا ومتماسكا من العلاقات المتشابكة، حتي بات الخروج عن الجماعة صعبا للغاية، ليس فقط لأنه سيخسر دينه، وإنما دنياه أيضا. وإذا أضفنا لقوة جماعة الإخوان مئات الجمعيات السلفية، التي يتلقي معظمها تمويلا من شخصيات أو حكومات، توظفها في مشروعات خدمية مثل تحفيظ القرآن والمستوصفات ومراكز دروس خصوصية ومشروعات إنتاجية صغيرة، سنجد أننا أمام شريحة كبيرة تشكل حاضنة لهذه الجماعات. وإلي جانب شريجة كبيرة من أئمة المساجد والدعاة، نجد أن نحو 9 آلاف معهد أزهري تنتشر في كل مدن وقري مصر، تضم مليونا ونحو 600 ألف طالب، وعشرات آلاف المعلمين، يضاف إليهم نحو 323 ألف طالب في جامعات الأزهر، يشكلون أكثر من 17% من طلاب الجامعات المصرية، وقد رأينا أن هذه الكليات والمعاهد كانت معاقل لجماعة الإخوان وغيرها من الجماعات السلفية. لقد اعتمدت حكومات مبارك طويلا سياسة عدم مواجهة الجماعات التكفيرية طالما لا تتمرد علي الدولة، فتوسعت وتنوعت الجماعات السلفية، التي تبدو مهتمة بالدعوة ونشر الفضيلة والعمل الخيري، لكنها سرعان ما تنقلب إلي أشد الجماعات دموية، أو تكون رافدا أو حاضنا للجماعات الإرهابية. في الوقت نفسه الذي اشتد فيه عود المؤسسات السلفية، كان الترهل والوهن يصيب معظم مؤسسات الدولة لأسباب كثيرة، منها انتشار المحسوبية بدلا من الكفاءة، واستفحال الفساد، ودخول التمويل الأجنبي علي مسار أجهزة الدولة، فأنشأ شريحة مستفيدين ومرتبطين بالممول الأجنبي، الذي لم يكتف بمنظمات المجتمع المدني أو الإعلام فقط، وإنما تغلغل إلي وزارات ومؤسسات الدولة، ومن أوسع الأبواب. وفد تسبب هذا الترهل في سهولة الاختراق الأجنبي، ومعه فيروس الإرهاب، ليكونا شقي رحي تطحن الكفاءات وتستبعدها، بينما تدعم العملاء أو الفاشلين، بما يضمن إما الهيمنة أو تحييد أجهزة الدولة، فتضعف مناعتها. لقد جاء اختيار شمال شرق سيناء ليكون قاعدة للجماعات الإرهابية بعناية شديدة، فالمكان يتمتع بمزايا كبيرة ومتعددة، فقد ظلت المنطقة بعيدة عن السيطرة المصرية الفعلية لعقود، لوقوعها في المنطقتين (ج) و(د) الخاليتين من القوات المصرية، مما جعلها أرضا خصبة لنفوذ كل من إسرائيل وجماعة حماس، وظهرت فيها شريحة اجتماعية واسعة تعتمد علي اقتصاد التهريب عبر الأنفاق، للسلع والأسلحة والوقود وحتي السيارات المسروقة والحيوانات الحية، وهذه الشريحة التي يعتلي قمتها مجموعة من المليونيرات، تضم جيشا كبيرا من المشتغلين بالتجارة والنقل والحفر والتأمين وباقي الخدمات، ويقدر عدد العاملين بهذا القطاع وحده نحو 20 ألفا، تحولوا إلي رصيد مهم للإرهاب، إلي جانب البؤر المتوطنة والهاربين من السجون والعائدين من الخارج. إن هذه الإمكانيات الكبيرة للإرهاب تضع علي عاتقنا أن نكون أكثر جاهزية لمعركة لا مجال أمامنا إلا أن نكسبها، لأنها معركة وجود. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد