في صبيحة الأحد الماضي رحل عن عالمنا شيخ المحققين في هذا الزمان عضو مجمع اللغة العربية مصطفي حجازي؛ بعد حياة طويلة حافلة، قضاها في محراب اللغة العربية وثقافتها معلمًا ومحررًا وعالمًا مُحقّقًا ومراجعًا وعضوًا في المجمع ورئيسًا للجنتيْ المعجم الكبير وإحياء التراث علي مدار عشرين عامًا. وقد اختار أن يكون رحيله من بلدته «برمبال الجديدة» التي هاجر إليها وقرر الإقامة فيها - منذ عامين - بعيدًا عن القاهرة وصخبها وأجوائها التي لم يتكيف معها، مصابًا باكتئاب شديد أفضي به إلي النهاية المحتومة. ومصطفي حجازي - لمن لا يعرفه - أحد رموز الجيل الموسوعي في علوم الثقافة العربية التي بدأ اشتغاله بها منذ تخرجه في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1950 وحصوله علي دبلوم التربية وعلم النفس من جامعة عين شمس ودبلوم الدراسات العليا في البلاغة والنقد من كليته. وجاءت النقلة الكبيرة في حياته عندما اختير للعمل في المعجم الكبير في الدورة المجمعية الثامنة والعشرين (1961 - 1962) التي رسمت فيها خطته، ووضع منهجه، فكان محرره الأول، ثم رئيسًا لتحريره، فمديرًا عامًّا للمعجمات وإحياء التراث. ولم يكتف بهذا بل وضع كتابًا بعنوان: «المعجم الكبير: المنهج والتطبيق» بسط فيه منهج المعجم في إيراد مادته اللغوية، وترتيب مداخلها الفعلية والاسمية، وأسلوبه في الاستشهاد علي المعاني والاستعمالات، ومنهجه في إيراد مادته الموسوعية من المصطلحات وأعلام الأشخاص وأسماء المواضع والبلدان وغيرها. صدر الكتاب ضمن مطبوعات المجمع عام 1981 وأصبح مرجعًا أساسيًّا للعاملين في المعجم الكبير - حتي اليوم - وأصبح مصطفي حجازي الأب الحقيقي لهذا المعجم، وللعاملين فيه، وقد صدر منه عشرة مجلدات، وتطور العمل فيه إلي أربع لجان، بديلاً عن لجنة واحدة، للإسراع في إنجاز ما تبقي منه خلال السنوات الخمس القادمة، إن شاء الله. وعلي مدي ثلاثين عامًا من العمل في المجمع - قبل أن يصبح عضوًا فيه - قام مصطفي حجازي بوضع فهارس كتاب «الجيم» للشيباني ومراجعتها، والإشراف علي إخراج» المعجم الوجيز» الذي قررت وزارة التربية والتعليم توزيعه علي طلاب مدارسها، كما شارك في إخراج الجزأين الثاني والثالث من كتاب «في أصول اللغة» والجزء الأول من كتاب «الألفاظ والأساليب» و»معجم ألفاظ القرآن الكريم» واختير خبيرًا للجنتيْ المعجم الكبير: اللجنة العامة ولجنة التنسيق. وبعد حصوله علي عضوية المجمع عام 1992 أصبح ركيزة للعمل اللغوي فيه، في دأب وإخلاص ومثابرة، ودماثة خلق وصفاء طبع ونقاء سريرة. يردّ علي من يناقشون بعض ما جاء في المعجم الكبير - عند عرضه علي مجلس المجمع - بهدوء ووقار واحترام، لا يرتفع له صوت - شأن الذين ترتفع أصواتهم عندما لا تكون لديهم حجة - ولا تحتدّ له نبرة، ولا يدخل في جدال لا فائدة منه، وهو الذي قام في مجال تحقيق التراث - مجال جهده الأساسي - بتحقيق كتاب «تاريخ اليمن المسمَّي بهجة الزمن» لعبد الباقي اليماني، وكتاب «المنازل والديار» لأسامة بن منقذ فارس قلعة شيزر وشاعرها العَلَم. والكتاب يضم تحقيقه لشعر هذا الشاعر الكبير الذي لم ينل حظه من الشهرة وذيوع الصيت، وهو الصِّنْو في المكان والمنزلة والفروسية والإنجاز الشعري لأبي فراس الحمداني، وقد شهد أسامة بن منقذ أحداث الزلزال الذي قضي علي مدينته شيزر وكل من فيها، وأتيحت له وحده النجاة لأنه كان خارجها، فكان شعره فيها شعر بكاء وحسرة وتفجع، علي كل من قضي نحبه تحت أطلالها وخرائبها. مقارِنًا بين ماضٍ مزدهر بالحياة وواقع كتب له الدمار والعدم. وأعتقد أن هذا الكتاب الذي أتيح لي الاطلاع علي طبعاته المتعددة - وقد طبع مرارًا بعد صدوره عن المجلس الأعلي للشئون الإسلامية عام 1968 - مستمتعًا بجماليات فنّ التحقيق عند مصطفي حجازي، وقيامه علي أسس علمية راسخة تتحري الضبط الدقيق، والتوثيق، والمراجعة، والمقارنة بين النسخ المتداولة، والشرح الأدبي البديع لكل ما يحتاج إلي لمسة أدبية أو استشهاد بالنظائر. يرفد هذا كله فيض علم المحقق الراسخ القدم، وفيض ما تمتلئ به حافظته من الذخيرة الشعرية العربية، وما يسهل عليه استرجاعه وتداوله في طرفة عين، دون عنت أو مشقة. من المؤكد أنه سيبقي من الجهود العلمية البارزة - في مجال التحقيق - للأستاذ مصطفي حجازي الكثير الذي يتصدر سجلّ إنجازاته، وفي مقدمتها تحقيقه ثلاثة أجزاء من «المحكم في اللغة» لابن سيده بالاشتراك، صدرت عن معهد المخطوطات العربية بين عاميْ 1996، 1999، والجزء الثالث والثلاثين من كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» للنويري، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1997، بالإضافة إلي قيامه بتحقيق عشرة أجزاء من «تاج العروس شرح القاموس المحيط» بتكليف من وزارة الإعلام بدولة الكويت صدرت بين عامي 1969، 2001، ثم كلفته وزارة الإعلام الكويتية بمراجعة ما قام به محققون آخرون لخمسة أجزاء من هذا المعجم. لقد قام مجمع اللغة العربية بترشيح هذا العالم الكبير والمحقق العلم صاحب المدرسة والتاريخ والإنجاز الضخم، أكثر من أربع مرات للحصول علي جائزة الدولة التقديرية من المجلس الأعلي للثقافة - لكن اسمه كان يمرّ سريعًا عند التصويت لا يكاد يلتفت إليه أحد - بين زحام الأسماء الأخري التي أتيح لها قدر أكبر من اللمعان والذيوع والدوران. وظلّ هو - كأمثاله من الكبار الصامتين - يستعين علي مرارة النكران بالمزيد من العمل والإنجاز، والإصرار علي مواصلة الرسالة التي نذر نفسه من أجلها منذ تخرجه في الجامعة، والتحاقه بالمجمع بعد عشر سنوات قضاها في العمل بالتدريس كانت بمثابة الصقل لكل ما احتشد به من المعرفة لكل ما يتصل بمجالات الثقافة العربية في دوائرها اللغوية والأدبية والتراثية والدينية. وهي فترة التأسيس لما كان مقبلاً عليه - دون أن يدري - وهو يضع قدميه علي عتبات المجمع في عام 1961. أربعة وخمسون عامًا، قضاها هذا العالم الكبير في مجمع اللغة العربية خادمًا أمينًا متواضعًا في محراب لغتنا الجميلة، تخللها إفصاح حيّ عن موهبته الشعرية التي ظلت مستكنة في داخله، لا يسمح لها بالظهور إلا في مناسبات مجمعية تفرض نفسها علي وجدانه، وفي مقدمتها رحيل أصدقائه وزملائه من المجمعيين. ومن أبرز هذه المناسبات مشاركته في تأبين إبراهيم الترزي - عضو المجمع والأمين العام الأسبق له -، والدكتور أحمد مختار عمر عضو المجمع الراحل، والدكتور إبراهيم السامرائي عضو المجمع من العراق، والدكتور محمود حافظ رئيس المجمع السابق. وكان - رحمه الله - يختصني ببعض هذه الإفضاءات الشعرية ليؤكد لي أن صلته بالشعر ما تزال. لكن من الإنصاف أن يقال إن بعضها كان يصدر عن معين شارف علي الجفاف فهو أقرب إلي شعر العلماء نتيجة للانهماك العلمي في الدراسة والبحث والتحقيق والمراجعة، شأن كثير من الأساتذة الذين أثرت طبيعة الحياة الأكاديمية فيما بداخلهم من توهج الإبداع وتدفقه. ولعله الآن بعد رحيله - كما خطط له أن يكون من بلدته - بعيدًا عن القاهرة وما فيها ومن فيها، قد تخلص أخيرًا من مرارة النكران والتجاهل، راحلاً علي مشارف عامه الثالث والتسعين، واجدًا في رحاب عالم الحق والعدل والبقاء طمأنينة الرضا، والبعد عن ضغائن الأحياء. لمزيد من مقالات فاروق شوشة