تجري اليونان اليوم استفتاء يعد الأصعب من نوعه في تاريخها الحديث نظرا لأن نتائجه ستحدد بقاءها ضمن منطقة اليورو أو الخروج منها. ويعتمد خيار البقاء وبامتياز على قبول اليونانيين للإصلاحات وإجراءات التقشف الجديدة التي وضعها الدائنون الدوليون شرطا لإمداد أثينا بخطة إنقاذ جديدة ولإقراضها المال اللازم لسداد ديونها وتفادى إعلان إفلاسها. وفي المقابل، سيترتب على خروج النتائج ب"لا"ورفض شروط الجهات الدائنة عجز اليونان عن الوفاء بالتزاماتها وخروجها من "اليورو"العملة الموحدة ، وهو السيناريو الكارثي محتم الحدوث ما لم تكن هناك خطط أوحلول بديلة يوافق عليها الجانبان لتفادي وقوعه. ولم يأت إعلان رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس عن إجراء هذا الاستفتاء، الذي باغت به الجميع، من قبيل العفوية أو بالأحرى من قبيل استظهار العضلات على الدول الأعضاء بمنطقة اليورو، وإنما جاء على العكس تماما من منطلق المبدأ القائل "مجبرا أخاك لا بطل"بناء على أن موقف بلاده هو الأضعف من نوعه، خاصة بعد أن أبلغه هاتفيا يانيس فاروفاكيس وزير ماليته، الذي ترأس وفد اليونان خلال جولة المفاوضات الأخيرة التي جرت مع الدائنين الدوليين بمقر المفوضية الأوروبية ببروكسل في 23 يونيو الماضي، برفض وزراء مالية منطقة اليورو تمديد حزمة الإنقاذ، التي انتهت بالفعل في منتصف ليلة ال 30 من الشهر المنصرم ذاته، لمدة شهر إضافي آخر. وأجبر هذا الموقف الأوروبي المتعنت رئيس الوزراء اليوناني- من وجهة نظره ونظر مؤيديه- إلى تكليف وزير ماليته بالانسحاب الفوري من تلك المفاوضات التي سرعان ما انهارت بمجرد مغادرة الأخير لقاعتها. وبنظرة تحليلية، يبدو أن السبب الرئيسي وراء إعلان تسيبراس عن إجراء هذا الاستفتاء يتمثل في ضرب عصفوين بحجر واحد. ويكمن الأول منهما في أنه أراد أن يثبت للجهات الدائنة لبلاده أن اتخاذ قرار بشأن قبول أو رفض شروطها الجديدة لمنح أثينا مساعدات مالية بديلة للماضية ليس مقتصرا في اتخاذه على الدوائر الرسمية فحسب، وإنما هو مبنى على رأي الأوساط الشعبية التي لا بد أن تقول فيه كلمتها إيجابا أو سلبا. وربما وبالتالي سيكسب تسيبراس لاحقا تعاطف بعض الجهات الدائنة إن لم يكن معظمها أو حتى جميعها لموقفه ولموقف حكومته، خاصة في حالة خروج نتائج الاستفتاء ب"لا"، ببساطة لأنه وقتها سيسعى إلى إظهار نفسه بمظهر المغلوب على أمره والراضخ لرغبة شعبه الذي يعد صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في قضية من هذا النوع. وربما يفسر هذا السبب سر تأكيد تسيبراس على البقاء ضمن منطقة اليورو حتى في حالة رفض اليونانيين لشروط الجهات الدائنة من خلال هذا الاستفتاء، حيث إنه يراهن بقوة على الظهير الشعبي لبلاده في تغيير موقف أعضاء "اليورو" ضد حكومته نزولا على الرغبة الشعبية لليونان وليس لحكومتها. ويتمثل البعد الثاني في إعلان تسيبراس عن إجراء هذا الاستفتاء في تجنب مواجهة لاحقة لموجة عارمة من الاحتجاجات الشعبية ضد حكومته اليسارية، خاصة في حالة خروج نتائج الاستفتاء ب"نعم"، ببساطة لأن الأوساط الشعبية لن ترى في المستقبل مبررا لاحتجاجها ضد حكومته على سياسات التقشف الجديدة التي أقرها اليونانيون بأنفسهم من خلال استفتاء شعبي وليس بناء على قرار حكومي. وسيتضح لاحقا وفي حالة خروج نتائج الاستفتاء ب"نعم" أن خروج أكثر من 30 ألف يوناني في فترة ما قبل الاستفتاء في مظاهرة حاشدة تأييدا لمقترحات الجهات الدائنة ودعما للتصويت ب"نعم"لم يكن سوى محاولة للتعبير عن الرأي من قبل البعض وقتها، وأن تنظيم مظاهرات في فترة ما بعد إعلان النتائج ضد تسيبراس وحزبه"سيريزا"السياري ستكون حينئذ بلا معنى لأن الجميع وقتها وفي مقدمتهم الأقلية سيتحتم عليهم احترام النتائج التي اختارتها الأغليبة. وبالرغم من إظهار أحدث استطلاع للرأي أن 54٪ ممن ينوون المشاركة في الاستفتاء سيعارضون صفقة اتفاق الجهات الدائنة في مقابل 33٪ ممن يعتزمون تأييده، فإن الضريبة المترتبة على تنائجه وبغض النظر عن نوعها مريرة وللغاية في كلتا الحالتين. فهي إما ستعرضهم للخروج من "اليورو" وتحرمهم من التعامل بالعملة الموحدة وامتيازاتها وإما أن تعرضهم للاكتواء بنار سياسات التقشف ومتاعبها. وينص مقترح اتفاق الدائنين الدوليين "الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي" على تمديد برنامج المساعدة لليونان لمدة 5 أشهر ، فضلا عن إقراضها 15 مليارا ونصف المليار يورو يقدم منها الأوروبيون 12 مليارا بينما يتكفل صندوق النقد بدفع ال 3 مليارات ونصف المليار المتبقية، وذلك في مقابل قيام أثينا بإصلاحات واتخاذها إجراءات تقشف مالية جديدة أبرزها رفع الضرائب وخفض المعاشات. ويرى بعض اليونانيين أن فرض الدائنين لشروط من هذا النوع يعد بمثابة إعلان حرب اقتصادية ضد بلادهم، خاصة وأن المسألة تتعلق بدخلهم الشهري. من جهته، لم يتورع صندوق النقد الدولي في الإعلان عن تخلف اليونان عن سداد قسط الدين المستحق عليها للصندوق والذي يقدر ب 1،5 مليار يورو، وذلك بمجرد انتهاء موعد الاستحقاق منتصف ليل ال 30 من يونيو الماضي، وهو التوقيت ذاته الذي انتهت بحلوله خطة الإنقاذ الأوروبية التي تقدم مساعدات مالية منذ عام 2010 لأثينا التي لم تعد تتلقى الآن سوى ما يسمى ب"قروض الطواريء" أو "السيولة الطارئة"التي يوفرها البنك المركزي الأوروبي لبنوكها من أجل استمرارها المالي والتي رفض في وقت سابق رفع سقفها، مما اضطر الحكومة اليونانية إلى فرض ضوابط على حركة رءوس الأموال وأعلان إغلاق البنوك لمدة أسبوع، وتحديد عمليات السحب الممكنة للبطاقات البنكية ب 60 يورو يوميا للبطاقة الواحدة نظرا لتهافت المودعين على سحب الأموال من البنوك، مما شكل خطرا على النظام البنكي اليوناني وأدى إلى إغلاق بورصة أثينا. وفي مسعى لإيجاد حل مع الدائنين، قدم رئيس الوزراء اليوناني في الأول من الشهر الجاري طلبا لمنح بلاده خطة مساعدة مالية جديدة من شركائها في منطقة اليورو. ويتضمن المقترح إبرام اتفاق لمدة سنتين مع آلية الاستقرار الأوروبية يسمح لها بتغطية حاجاتها المالية التي تقارب 30 مليار يورو مع إعادة هيكلة إجمالي ديونها .ورد وزراء مالية "اليورو" في أعقاب مؤتمر هاتفي برفض المقترح وتجميد كافة ألوان المفاوضات لحين الوقوف على نتائج الاستفتاء، وهذا ما أكده بيتر كازيمير وزير المالية السلوفاكي بقوله: "إن مجموعة اليورو قررت بالإجماع انتظار نتائج الاستفتاء قبل استئناف المحادثات لأنه سيكون من قبيل وضع العربة أمام الحصان"، وهو ما أيدته أيضا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بقولها "إنه لا مفاوضات قبل نتيجة الاستفتاء. ودفع هذا الموقف الأوروبي تسيبراس إلى التأكيد على إجراء الاستفتاء في موعده وحث مواطنيه على التصويت خلاله ب"لا"التي أكد أن معناها هو التوصل إلى اتفاق جيد، ورفض ما أسماه ب"ابتزاز" اليونانيين، وأنها ليست شعارا و إنما رمزا للتقدم و التفاوض بشكل أفضل. وبالتالي لم يعد هناك أمام الجميع مناص من إجراء هذا الاستفتاء. وسيترتب على هذا الاستفتاء 5 سيناريوهات سيحدد كل منها ما إذا كانت اليونان ستظل ضمن منطقة اليورو أم أنها ستخرج حتما منها، وذلك بناء على نوع النتائج ورد فعل الجهات الدائنة تجاه أي منها. ويمثل السيناريو الأول في التصويت ب"نعم"وعندها سيكتب لليونان البقاء ضمن "اليورو"، ولكن على شعبها تحمل ويلات إجراءات التقشف التي أختاروها بأنفسهم ولم يملها عليهم أحد، وهذا السيناريو هو الأبعد من نوعه لدرجة أن تسيبراس هدد بالاستقالة في حالة خروج النتائج به. ويمكن السيناريو الثاني في التصويت ب"لا" التي تعني رفض شروط الدائنين ، وعندئذ أما أن يرفض المقرضون أي بديل ليدفعوا بآثينا إلى خارج "اليورو". وهذا السيناريو الثاني مستبعد نسبيا للأسباب الآتية، أولا لأن هناك ثمة إمكانية للتوصل لاتفاق إنقاذ جديد لليونان بحلول ال 20 من يوليو الجاري الذي يتزامن مع موعد استحقاق سندات قيمتها 3،5 مليار يورو للبنك المركزي الأوروبي. ولعل السبب الثاني يعضده تأكيد تسيبراس على أن أوروبا وإن اعتقدت أن فوز ال"لا" قد يؤدي الى خروج اليونان من منطقة اليورو فإنها ستؤدى أيضا إلى أزمة في المؤسسات المالية الأوروبية. ويلوح في الأفق سيناريو ثالث وهو أن الأوروبيين وخاصة على المستوى الشعبي سيرفضون خروج اليونان في حالة التصويت ب"لا"، وعندها سيدفعون حكوماتهم على تقديم خطط إنقاذ بديلة يقبل بها اليونانيون وتخدم مصالح الطرفين ، خاصة وأن الدائنين يدركون أن التأثيرات السلبية لمغادرة اليونان لمنطقة اليورو ليست مقتصرة على أثينا وحدها ولكنها تطال الجميع. وفي حالة تخلي الأوروبيين رسميا وشعبيا عن اليونان فإن المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد والبنك الدوليين لن تسمح بخروج اليونان من "اليورو"وعندئذ ستمد أثينا باحتياجاتها المالية اللازمة للبقاء ضمن "اليورو"، وذلك بإيعاز ضمني أو بتدخل أمريكي غير مباشر، وهو السيناريو الرابع الذي ترجح احتمالات حدوثه تصريحات أكدت فيها كرستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولي"أن اليونان لا تزال عضوا في صندوق النقد الدولي وسيستمر الصندوق في التواصل معها". ويتمثل السيناريو الخامس في أن تتدخل الولاياتالمتحدة بشكل مباشر لحل الأزمة إما بالضغط على الأوروبيين لتقديم تنازلات أو إيجاد بدائل. وما لا يخفى على الجميع هو أن واشنطن لن تتدخل للحيلولة دون خروج اليونان من "اليورو" حبا في أثينا وأوروبا وإنما خوفا من تأثر النظام المالي العالي المتأزم التي ستكون أمريكا أول المتضررين من تدهوره أكثر و أكثر. و في النهاية تبقى القضية برمتها رهن الإعلان عن نتائج هذا الاستفتاء الذي ما علينا جميعا سوى انتظارها.