تستخدم الصحافة الفنية أحيانا بعض الأرقام لتتلاعب بمشاعر القارئ وأفكاره، فهذه الأرقام تبدو فى حالات كثيرة أقرب إلى أن تكون »بورصة«، تصنع نجوما وتذهب بنجومية آخرين، دون أن يعرف أحد لماذا (مثل البورصة بالضبط!)، أو تستفزك الأرقام وتبعث فيك الحسد من هذا الممثل أو ذاك، الذى يكسب الملايين لكى يطل فقط علينا بطلعته على شاشة التليفزيون، أو تجعلك الأرقام تتحسر على المال »الضائع« الذى ينفقه المنتجون على صنع مسلسلات بالكوم، لا يبقى منها فى الذاكرة شىء كثير بعد انتهاء الموسم الرمضانى، ولعلك كثيرا ما تفكر بينك وبين نفسك قائلا، حين تبدى عدم إعجابك بما تراه على شاشة التليفزيون: ألم يكن أجدر بهؤلاء المنتجين أن ينفقوا »أموالهم« على شىء أفضل من كل هذا الهراء؟ كلمة السر هنا هى »أموالهم«، فهل هى أموالهم حقا؟ من أين يأتون بها؟ ولماذا ينفقونها على هذا النحو السفيه، إذا كانوا كثيرا ما يقولون أنهم قد خسروا »الجلد والسقط« فيها؟ ولا تستغرب عزيزى القارئ إذا اكتشفت أنها ليست أموالهم «ولا حاجة»، بل هى أموالى وأموالك، هى عرق هذا الشعب الذى يضيع هدرا فى يد حفنة قليلة جدا من الناس، يوزعونه بينهم وبين بعضهم، بينما نأكل نحن بعضنا! تأمل معى هذه الدورة المالية من إنتاج المسلسلات وتوزيعها وإذاعتها: هناك منتج يضع ماله فى نص درامى (أو ما يفترض أنه يستحق أن نسميه نصا دراميا)، ويأتى بنجم أو نجمة للقيام بدور البطولة، وأحيانا تكون النجمة (ولا حاجة لنا أن نذكر أسماء فأنت تعرف أمثلة أكثر منى) هى التى أتت بالمنتج والمؤلف والمخرج، ولعلها إن استطاعت فسوف تأتى أيضا بالمتفرجين. ويتم صنع المسلسل، ويوزع المنتج فلوسا على النجوم والممثلين والفنيين، ليجمع هذه الفلوس وفوقها ربحا معقولا عندما يبيع مسلسله لوكالة إعلانية، تقوم بدورها ببيعه إلى عشرات القنوات الفضائية، التى تذيعه ليس من أجل متعتك، ولكن لأنه يمثل الوعاء الذى سوف توضع بداخله عشرات الإعلانات، التى يدفع بالطبع أصحاب السلع المعلن عنها ثمن إذاعتها. إذا توقفت الدائرة عند هذا الحد، فقد يتصور المرء أن صاحب السلعة (يا عينى!!) هو الذى يدفع الثمن، لكن الحقيقة أنه يضيف قيمة هذه الإعلانات إلى أسعار سلعته، التى نشتريها نحن، ولا ندفع فقط ثمن تكلفتها، بل أيضا قيمة الإعلانات عنها التى أذيعت بين المسلسلات. وهكذا تصبح أنت وأنا والشعب كله هو »منتج المسلسلات اللى ما أنتجش حاجة«، أو قل إنه أنتجها غصبا عنه، لكى يستهلك السلع المعلن عنها، وإن كان فى الوقت ذاته يستهلك حياته ووعيه ذاتهما!! نحن إذن من يدفع ثمن إنتاج هذه المسلسلات بغثها وسمينها، ليس ماديا فقط، ولكن معنويا أيضا. ندفع الثمن ماديا لغياب أى منظومة تحدد هامش الربح لأى سلعة وتدافع عن حق »المستهلك«، وندفعه معنويا لأنه لا توجد أى مؤسسة إعلامية تدافع عن حق »المتفرج«. وهنا لابد أن نذكر أن عبارة »حرية التعبير« لا تستخدم على هذا النحو المفرط، والمبتذل أحيانا، إلا فى مجتمعات تشبه مجتمعنا، بلا مؤسسات تحمى حرية الجميع، فإذا كان من حق طرف ما أن ينال حريته، فلابد من حصول الطرف الآخر على حريته أيضا. ولكى أوضح هذه النقطة أود أن أشير إلى أن أمريكا بجلالة قدرها فيها من المؤسسات ما يكفى لحماية كل أطراف أى معادلة. ففى مجال الإعلام والإعلان على سبيل المثال، تقوم »مفوضية الاتصالات الفيدرالية« (إف سى سى) بتحديد كل ما يتعلق بالإرسال التليفزيونى، فلا تملك محطة أو شبكة أن تذيع ما تشاء وقتما تشاء وبالطريقة التى تشاء، لكن هناك قواعد وأصولا، سواء من حيث الشكل أو المحتوى، فلا يمكن مطلقا إذاعة ما يتضمن درجة ما من الحساسية فى أوقات يفترض أنها الأوقات التى يشاهد فيها الأطفال التليفزيون. لكن الأهم فيما نتناوله الآن هو تحديد الإعلانات داخل أى برنامج أو مادة درامية، من حيث النسبة بين زمن المادة وزمن الإعلان (لا تتجاوز خمسة عشر فى المائة أو أقل كثيرا)، أو مضمون الإعلان، وتوقيت قطع المادة لإذاعته. ولعل المثال القريب على ذلك، وربما كان كثيرون منا قد شاهدوه، هو الشكل (أو الفورمات) الذى تصنع به أى كوميديا موقف (سيتكوم)، فهناك فصلان دراميان زمن الواحد منهما اثنتا عشرة دقيقة، تفصل بينهما إعلانات لمدة ثلاث دقائق فقط. وعلى الكاتب وكل عناصر العمل الفنى أن يضعوا فى اعتبارهم ذلك، دون أى ثرثرة غوغائية عن »حرية التعبير«. قارن ذلك بما يحدث عندنا، فكما يتندر بعض الكتاب الساخرين، يكاد الأمر يصل إلى أن تكون الإعلانات هى الزمن الرئيسى، تفصل بينها أحيانا مشاهد تمثيلية! ما نتيجة ذلك كله؟ أن يفقد المتفرج تركيزه، وتتلاشى حاسته النقدية، ويجلس متبلدا أمام شاشة التليفزيون وهو يقلب بين محطاتها، ليصنع مونتاجه الخاص من مشاهد متفرقة من مسلسلاتها. وذلك بالضبط هو الأثر السلبى الأفدح من مجرد دفعنا ثمن الإعلانات مع شرائنا السلع المعلن عنها، إنه التشتيت وعدم التركيز، وعدم وجود أى رابط بين الناس يجمعهم فى وقت ما للاستمتاع بعمل ما، وهو ذاته غياب الرابط فى وجود العديد من المدارس الخاصة شبه الأجنبية، لتخرج أجيالا لم يجمعها منهج دراسى واحد. هل ما زلنا نسأل عن الهوية والانتماء؟ قل لى أولا ماذا فعل التعليم والإعلام ليرسخ وجودهما فى حياتنا. لمزيد من مقالات أحمد يوسف