أكتب اليك هذه الرسالة وأنا أشعر بدنو أجلى وأننى قد اقتربت من النهاية المحتومة لكل إنسان.. إنه الموت الذى لم يفارق خيالى لحظة, منذ أن كنت طفلة أتطلع الى السماء وأتأمل مخلوقات الله وأسبح بحمده وكنت حريصة على أداء الصلوات فى مواعيدها, واقتصرت فى علاقاتى مع مجموعة محدودة من الصديقات. وكعادة معظم أهالى القرى والمناطق الريفية فإننى أكملت تعليمى المتوسط بالكاد, فمعظم الآباء والأمهات لا يحبذون اتجاه بناتهم الى التعليم العالى، ويرون أن مصير البنت هو الزواج وتربية الأبناء, وأما من تتجه الى التعليم العالى فيكون ذلك على حساب بيتها وأولادها فيما بعد, وبالفعل تزوجت بمجرد أن أكملت السن القانونية للزواج, وانتقلت الى عالم جديد مع شاب من قرية مجاورة لقريتنا كان يكبرنى بعام واحد تقريبا, ولم يكن أبوه قد أتم سن الأربعين بعد, ومر أسبوع واحد بعد الزفاف كانت الأمور خلاله عادية, وكان زوجى فى إجازة من عمله بأحد المصانع الخاصة, ولاحظت تودد أبيه الزائد لي, حيث كنا نسكن جميعا فى بيت واحد, ففهمت ذلك على أنه يعاملنى كابنته, لكنه ذات يوم وبمجرد خروج ابنه الى العمل كنت بمفردى معه فى البيت, حيث انه يعيش معنا وليس لديه أولاد آخرون وزوجته توفيت فى حادث قبل سنوات.. أقول لك, وجدته يغازلنى ويحاول أن ينال غرضه منى بالقوة, وكنت وقتها فى المطبخ أعد الطعام, فهاج وأمسك بإناء الطعام وكان به زيت مغلى وقذفنى به, فإزداد صراخى وتجمع الجيران ونقلونى الى المستشفي, وعلمت أسرتى بما حدث فعقدوا جلسة عرفية لمناقشة هذه الواقعة الدنيئة وانتهى الأمر بتطليقى من زوجى لاستحالة العشرة معه بعد ما حدث من والده. وخلال وجودى فى المستشفى للعلاج علمت إحدى السيدات بقصتى خلال حديثها مع والدتي, وكانت تخضع وقتها للعلاج هى الأخري, وفى اليوم التالى فاتحتها فى زواجى من ابنها الذى توفيت زوجته فى أثناء وضع مولودها الثالث. وهكذا وجدتنى وأنا لم أكمل سن العشرين مطلقة ثم زوجة لرجل لديه أولاد من زوجة سابقة, ولم يكن لى رأى فيما يحدث, فمن العيب أن تبدى الفتاة رأيا فى مثل هذه الأمور, وتترك القرار النهائى لأهلها, ووجدتنى فى بيت جديد وعالم مختلف عما عشته من قبل, فعائلة زوجى كثيرة العدد, والبيت يضج بالرجال والنساء ليل نهار, ولا خصوصية لأحد أبدا, وتتداخل كل الأمور مع بعضها, وحرصت قدر الامكان أن أقتصر على نفسى وحياتي, ولم استجب لمحاولات الكثيرين الاقتراب مني, وظل الحادث الذى تعرضت له مع والد زوجى السابق فى مخيلتي.. فلقد كرهت الرجال بسببه, وظل الهاجس المسيطر علىّ هو أن أى رجل يتحدث مع امرأة يريد أن ينال غرضه منها. لقد مر العمر كله وها أنا قد تعديت سن الخمسين ولدى أربع بنات وولدان.. ذقت ومازلت أذوق المرارة فى تربيتهم خصوصا البنات اللاتى أخشى عليهن من الهواء الطاير, اما الإحساس الذى يراودنى الآن بعد ان تزوجت ابنتى الكبري, فهو انها قد تتعرض لنفس ماتعرضت له من قبل, حيث انها تعيش فى بيت واحد مع حماها الذى تزوج بعد رحيل زوجته، وتكاد تعيش نفس الظروف, وأخشى أن أحدثها بما وقع لى من قبل فألفت نظرها إلى أشياء ليست فى حسبانها, وأسييء بذلك الى رجل فاضل لم يصدر منه شيء. إننى أعيش صراعا داخليا قاسيا ولا أريد نكأ جراحى القديمة لكنى أرغب فى أن تتعلم بناتى الدرس والحذر من تقلبات الآخرين قبل رحيلي، فماذا أفعل؟ ولكاتبة هذه الرسالة أقول: من انتهجت نهجك ياسيدتى يجب أن تطيب نفسا, وأن تدرك أنها بصنيعها قد وضعت الأساس لذرية صالحة, وأحسب أن بناتك سوف يصنعن صنيعك إذا صادفن الظروف نفسها, ومن طابت نفسها صارت مطمئنة فى دنياها واخراها, يقول تعالى: «يا أيتها النفس المطمئنة.. ارجعى الى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى»... وإننى أهدى قصتك الى كل فتاة وكل زوجة تريد ان ترضى ربها, وان تعلم أن ما تعرضت له من اختبار ونجحت فيه سيكون فى ميزان حسناتها يوم القيامة, وسوف يخلفها الله عز وجل ذرية تسير على نفس منهجها فى الحياة. فاهدئى بالا ياسيدتى ويمكنك أن تحكى لبناتك عن تجارب مماثلة, ولا داعى لنكأ جراحك القديمة كما تقولين, وان كنت أرى أنها ليست جراحا فى رأيي, وانما هى تجربة كشفت عن تدينك وخوفك من ربك, وتربيتك الصالحة, وفقك الله وهدى بالك وأصلح حالك, وجعل من ذريتك اناسا صالحين يملأون الدنيا صلاحا ونورا.