في زمن مضى بأحد أروقة الأزهر الشريف،كان يجلس شيخ أندلسي مستندًاإلى أحد أعمدة الجامع الفاطمي العتيق، ويتجمّع حوله عدد من المريدين يحدثهم في أمور دينهم،ويعرج بهم إلى رقائق تهذب دنياهم..،يلبس الخِرقة وينشد الزَّجَلَ بلكنةٍ مغاربية،ويثير غضبةَ متحفِّظي القاهرة بنزعته الصوفية وميله إلى الشاذلية، وتُثار الأحاديث حول آرائه وتوجهاته فلايلتفت ولا يهتم،ويمضي في طريقه ليصدق قوله في نفسه حينما قال: شويخ من أرض مكناس *** في وسط الأسواق يغني إيش على من الناس *** وايش على الناس مني هو على أبو الحسن بن عبد الله النُميري الشُشتري اللوشي،والششتري نسبة لشُشتر، وهي قرية صغيرة تقع بالأندلس، يرجع لها أصل عائلته، أما اللوشي فنسبة إلى لوش، وهي قرية أندلسية أيضًا يُرجح المؤرخون ولادته بها. ولد أبو الحسن في أوائل القرن السابع الهجري لأسرة ميسورة الحال، بل وينتسب بعضها لكبار رجال الدولة كما ذكر الأديب الأندلسي ابن ليون التجيبي في سرده لحياة الشُشتري «أنه كان من الأمراء وأولاد الأمراء فصار من الفقراء وأولاد الفقراء» في إشارة لزهده ونزعته الصوفية،وكعادة أبناء جيله بدأ الشُشترى بقراءة القرآن وحفظه، ثم درس الفقه وأصوله، ليعرج بعدها على دراسة التصوف وهو الأمر الذي ظل في حدود الدراسة إلى أن صادف في أحد أسفاره إلى بجاية الجزائرية حلقة لأتباع الصوفي الكبير أبي مدين التلمساني، المُلقب بالغوث،فأُعجب بالطريقة ولازم رجالها حتى عدّه البعض «مديني»،ولدرجة جعلت من البعض ينسب موشحاتأبي مدين التلمساني له والعكس حدث مع موشحاته أيضًا والتي نُسبت بعضها إلى أبي مدين. وفي ظل هذا الانجذاب الروحي العميق للمدينية قابل الشُشتري الرجل الذي لعب الدور الأكبر في حياته وهو الفيلسوف والمتصوف الأندلسي عبد الحق ابن سبعين الذي كان يصغر الشُشتري بحوالي أربعة أعوام، ولكنه كان سابقًا له في ميدان التصوف والفلسفة، وقد قابله في بجاية أيضًا، وكأن بجاية هي كلمة السر في حياة الشُشتريالذي استحوذ ابن سبعين على لبه في وقتها حينما قال له:»إن كنت تريد الجنة فأذهب إلى أبي مدين، وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلي». وهو ماجعل الششتري يُجيب دعوة الداعى وينصرف تمامًا لمرافقة ابن سبعين. وللإمعان في تهذيب النفس وترويضها أمره ابن سبعين أن يتجول في الأسواق لابسًا خرقة يحمل علمًا وينشد قائلاً: بديت بذكر الحبيب*** وعيشي يطيب وقد امتثل المريد لأوامر شيخه بلا تأفف ولا تذمر، وأصبح يلازمه ويسافر معه أينما ذهب حتى إن بعض مريدي ابن سبعين كان يُفضل التلميذ على شيخه، وكان الشُشتري يعقب على ذلك بقول يعبرفيه عن أدبه تجاه مُعلمه فيقول: إنهم يفعلون هذا لقصورهم عن فهم حقيقة الشيخ. وفيما بعد انفرد برحلاته فزار فاسومكناس المغاربية وقابس التونسية وطرابلس التي أجلّه أهلُها، وأعجبوا به، وطلبوا منه أن يقيم بينهم ويتولى القضاء، فرفض ونزح كما أسلفنا من قبل للقاهرة، وأُعجب بالشاذلية أيما إعجاب، حتى عدّه البعض شاذ لاويًا،وذُكر بالفعل في سلسلة رجال الطريقة، وتردد على تجمعاتهم فترة إقامته في القاهرة حيث اعتكف فترة بالأزهر وأقام حلقات دراسية بباب زويلة، ثم ضاق به بعض الفقهاء فهجر القاهرة وساح في أرض الله الواسعة بين صحاري مصر والشام،وانضم فترة لجماعة قلندرية بدمشق، والمُرجح أنه اشترك في الجهاد ضد الصليبيين وقتها،ويعزو المؤرخون والشُراح سعة علم الرجل بحياة الرهبان والأديرة،والتي تجلَّتْ واضحة في شعره للفترة التي سبقت رباطه بدمشق حينما كان يطوف الصحراء المصرية والشامية،حيث تردد على الكثير من الأديرة والكنائس، وتمثل في شعره بالكثير من الرموز المسيحية التي خلعها على المعاني الصوفية، وهوما يدركه صاحب كل ذائقة روحية له نصيب من التصوف،ومن أمثلة هذا الشعر: نشأ في القوم شماس لطيف *** يجر الذيل في ثوب الوقار وفي أبيات أخرى قال: وعند دخولهم في الدير ألقوا ***عصاهم إذ ألموا بالجوار كما ألقى الكليم بها عصاه ***و ولى بالمخافة للفرار أو في قوله الأشهر تأدب بباب الدير واخلع به النعلا***وسلم على الرهبان واحطط بهم رحلا وقبل الرحيل اجتمع الششتري مع ابن سبعين أكثر من مرة،إحداها كان عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما أدي فريضة الحج، ولا يُعرف على وجه الدقة أيهما سبق الآخر في الوفاة، فالأخبار متضاربة حول هذا الأمر، ولكن الأكيد أنّ علاقتهما قد تركت أثرًا كبيرًا على تناول الكثير من الفقهاء لفكر أبي الحسن الشُشتري، خاصة في القول بوحدة الوجود الذي كان يعتنقه ابنُ سبعين ويؤمن به أبو الحسن،وإن كان بعض مناصريه يذكرإنه تبرأ من هذا الفكر قبل موته، وإنه قد اقترب مرة أخرى من الطريقة المدينية. وتتجلى إحدى كرامات الشُشتري في نهاية رحلته مع الدنيا حينما شعر بدنو أجله فسأل مرافقيه عن المكان الذي يمرون به فقالوا له «الطينة» وهو مكان قرب دمياط،فقال قولته الشهيرة «حنت الطينة للطينة» قاصدًا أن جسده اشتاق لسُكناه الأخير، وبالفعل صعدت روحه إلى بارئها وحُمل على أعناق الفقراء ودُفن في نفس المكان،وقد استقرت عائلته هناك، وذكر الجبرتي في تاريخه أن أحد حفدته وهو الإمام المسمى محمد فارس التونسي استقر فترة بدمياط ثم رحل إلى القاهرة وتوفى بها. وترك الشُشتري تراثًا ذاخرًا لا يكفي مقال واحد للحديث عنه، ومن أهم كتبه ورسائله مُؤَلف ٌبعنوان «المقاليد الوجودية في أسرار الصوفية»، و«الرسالة البغدادية» وكتابه «الرسالة العلمية» الذي قام ابن ليون التجيبي باختصاره في مؤلفه «الإنالة العلمية في الانتصار للطائفة الصوفية» ومن أهم من كتب عن الششتري من الباحثين المتأخرين هو أستاذنا الجليل علي سامي النشار رحمة الله عليه رحمة واسعة حينما اعتني بتحقيق ديوانه وأفرد من وقته الكثير لتتبع حياة الرجل رغبة في إماطة اللثام عن صوفي عظيم تكلم فأسمع، وترك أثرًا لايُمحي وإن تعاقبت السنون ومرت الأيام.